المأساة الكبرى!

اقتصاديونا مثلهم مثل اقتصاديي الأمم الأخرى أصناف ثلاثة:


فالأول: انتهازي يهتم بالأمور العاجلة والملحة أو التي تواجه الأمة على المستقبل المنظور، بقدر اهتماماته بالتقرب من السلطة؛ طمعًا في منفعة آنية أو مَزَيَّة من مزاياها، أو عرض من الحياة الدنيا لا يزيده إلا سقوطًا في أعين الناس.

وصنف ثاني ذو رؤًى ذاتية يعتقد أن الأمور الاقتصادية تحتاج إلى معالجة مبدئية باللونين الأسود والأبيض، ولا مجال لأي لون رمادي، ويغلب على هذا الصنف أساتذة الجامعات والمحللون الاقتصاديون الشباب الذين يفتقدون الخبرة الحياتية والممارسة العملية، بينما يغلب على قناعاتهم واقع ومآل النظريات الاقتصادية السائدة، أو أفكار أساتذتهم التي تولدت؛ إما بناءً على دراسات نظرية سابقة، أو نظريات راحلة عبر التاريخ، أو بناءً على تجارب ذاتية اكتسبت بالممارسة العملية في مجتمعات أخرى قد تكون أكثر تقدُّمًا من الناحية الاقتصادية والتقنية، وقد لا تكون مختلفة عن واقع مجتمعنا وظروفه ومستقبله، وآماله وآلامه.

ويشكِّل الصنف الثالث مجموعة رجال عمليين يجمعون درجات متفاوتة من العلم إلى الخبرة والتجربة العملية، وهؤلاء يهتمون كثيرًا بالهدف والغاية.

ولذلك كانت العلوم الاقتصادية النظرية في نظرهم لا تفيد في واقع الحياة شيئًا وكأن النظريات الاقتصادية مجرد سفسطة كلام لا مبرّر لها إن لم تفد في تطوير ثروة الفرد والمجتمع.

والمشكلة أن معظم مفكرينا من الاقتصاديين الذين تخرَّج معظمهم في الخمسينيات والستينيات، وحتى السبعينيات من القرن الماضي – آمنوا بالارتباط بين المثالية الفكرية والمطلق من الأفكار من ناحية، على حد رأي الدكتور محمد رياض الأبرش، وما بين واقع العمل الاقتصادي المعاش اليومي من ناحية أخرى.

وتدريجيًّا ألزموا أنفسهم بما ارتأوا أنه الحقيقة والصواب العلمي، وأن ما عداه هو مجرد الخطأ المطلق.

وهكذا أصبحوا يعيشون المأساة الكبرى التي تتلخص في أنهم عاشوا؛ ليروا أن كل ما بنوه من أفكار جعلوا من أنفسهم أسرى لها، تهاوت في غضون أشهر قليلة، وأن العالم الذي آمنوا به تهاوى كبيت من ورق أو زجاج.

والأدهى من ذلك أن يجدوا أنفسهم فجأة بلا مثال يحتذى، ولا فكر يقود الخطى أمام واقع يكذب ما عاشوا من أجله سنين طويلة.

Exit mobile version