حضارتنا الراهنة

يقول هاي روتشليس في كتابه “التفكير الواضح”: يستطيع الإنسان بفضل الله ثم هذا المخ الراقي أن ينظم الأصوات المركبة ويكوّن منها كلاماً ذا معنى يبلغ به أفكاره إلى غيره من الناس، كما يستطيع أن يسجل هذه الأفكار بالكتابة والطباعة لينقلها إلى سواه، وأن يتأمل هذه الأفكار ويعيد تنظيمها بأشكال شتى ليحصل على معلومات جديدة أو ليصل إلى نتائج عن أشياء لا يستطيع أن يراها أو يسمعها أو يلمسها، وبعبارة أخرى: إنه يستطيع أن يعقل.

ولقد تمكن الإنسان بفضل قدرته على التفكير، فضلاً عن قدرته على الكلام، وعلى استخدام يديه بمهارة، من أن يخترع السيارات التي تسبق النمر في سرعة عدوها، والطائرات التي تخلف أسرع الطيور وراءها، والآلات الرافعة، والمجارف التي ترفع أضعاف ما يستطيع أي حيوان أن يرفعه.

وبفضل قدرته على التفكير استطاع الإنسان أن يتقن صناعة ألوان جديدة من الطعام، وتعلم أن يصطنع لنفسه ملابس من ألياف جديدة مبتكرة، كما توصل بفضل القدرة على التفكير الرياضي والمهارة الهندسية إلى وسائل بناء الجسور (الكباري) الضخمة، وناطحات السحاب، والمصانع والمنازل، وغيرها من المنشآت التي يستخدمها في مختلف الأغراض، كما تمكن من أن يستخرج من باطن الأرض ما فيها من حديد وألومنيوم، ورصاص، ونحاس، وقصدير، وغيرها من المعادن، وتعلم أن يستخدم الوقود بطرق مأمونة لتدفئة المساكن وتسيير السيارات.

لقد مكنت القدرة على التفكير الإنسان من أن يُنشئ حضارتنا الراهنة، كما مكنته من أن يطلق فنه في الفضاء، وأن يعكف على التغلب على مشكلات الحياة على الكواكب غير الصالحة للحياة.

كذلك ابتكر الإنسان آلات معقدة ليسبر بها أغوار الذرة ويقف على أسرارها، ثم استخدم هذه الأسرار في ابتكار وسائل جديدة لتوليد الكهرباء، كما استخدمها في صناعة الأسلحة النووية المدمرة.

على أن القدرة على التفكير لازمة للحياة اليومية كذلك، فالواحد منا تحاصره من كل صوب إعلانات متعددة تدعوه إلى شراء هذا النوع من الأثاث، أو يأكل هذا الصنف من الطعام، ومقدرة الإنسان على التفكير هي التي تحول دون إنفاق المال في غير وجوهه الصحيحة.

وهناك الكثير من الأعمال التي يعتبر التفكير الواضح لازماً لها، فالمهندسون ورجال الأعمال والمعلمون والأطباء والميكانيكيون وسائقو السيارات.. وفي الجملة كل من يعمل ليكسب قوته، كلهم يحتاجون في أعمالهم إلى القدرة على التفكير، وتحتاج العلوم والرياضيات وغيرها من فروع العلم إلى مستويات عليا من المقدرة على التفكير، وبمضي الزمن تزداد باستمرار نسبة عدد السكان الذين يؤدون أعمالاً تحتاج إلى التفكير المركب.

إننا نعيش في ثورة صناعية من نوع جديد، فهناك الآن أعداد كبيرة من العقول الإلكترونية أو “العقول العملاقة”، وبعض هذه العقول الآلية تؤدي عشرات الآلاف من العمليات الحسابية والمنطقية في الثانية، ويستطيع بعضها أن يدير المصانع آلياً، وأن يترجم اللغات ويؤدى أعمالاً سهلة.

إن هذه الثورة الإلكترونية في استخدام المعلومات قد أخذت تغير وجه مجتمعنا الحاضر، ولهذا فإن الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى أناس يستطيعون أن يفكروا بوضوح، وأن يفهموا هذه الآلات، وأن يخططوا لها ما تؤديه من أعمال، في هذا العالم المتغير لابد من أشخاص قادرين على تقويم الحقائق، قادرين في الوقت نفسه على كشف الحقائق الجديدة.

Exit mobile version