لاظوغـــــــــلي!

بعد قرنين من الزمان، تمرّد على الصمت وعدم الاهتمام بذكر اسمه وتمجيد أعماله وإنجازاته، وقرر الخروج إلى العلن والتباهي بنفسه وتاريخه، وراح في التجمع الأول “يتبهنس”؛ أي يتبختر، ويمشي في الأرض مرحاً، وقال: كفى قرنين من الزمان احتجاباً وسكوتاً، لدرجة أن السلطة بعد رحيله في القرن التاسع عشر لم تجد صورة واحدة له تصنع على ضوئها تمثالاً له، فأخذت تبحث يميناً وشمالاً عن شخص يشبهه بدقة حتى عثرت على سقّاء يحمل قربة ماء يشبهه تماماً، فألبسوه ملابسه وقام المثّال بصناعة التمثال وفقاً لصورته.

محمد لاظوغلى، رئيس وزراء محمد علي باشا عام 1808م لمدة خمسة عشر عاماً، شغل قبلها وزارة المالية ووزارة الدفاع (الجهادية)، وكان لاظوغلي قد جاء من منطقة البحر الأسود إلى مصر برفقة محمد علي باشا، وقيل: إنه صاحب فكرة مذبحة المماليك الشهيرة في القلعة، وأطلقت السلطة اسمه على ميدانه المعروف في وسط القاهرة، غير أن اسم لاظوغلي اشتهر بين المصريين على مدى قرنين حتى الآن بالقمع والقهر والتعذيب والصراخ وانتهاك كرامة المصريين؛ حيث تشرف على ميدانه وزارة الداخلية وأمن الدولة ووزارة العدل.

وفي ظل الرخاء الاقتصادي الغامر الذي جاء به الانقلاب العسكري الدموي الفاشي 3/ 7/ 2013م، وجريان الفلوس في أيدي الناس مثل نهر النيل الذي لم تستطع الحبشة إيقافه عن التدفق أو حجزه وراء سدها العالي الضخم، فقد رأت السلطة الانقلابية أن تستعيد أمجاد لاظوغلي، وتضيء سيرته العطرة من جديد، فخصصت له أكثر من 350 ألف متر في القاهرة الجديدة، لتنقل إليها مبنى الداخلية وإداراتها وأجهزتها المهمة، وتخصص فيلا للوزير الحالي، وأخرى للوزير السابق، واستراحات لكبار رجال الأمن ليؤدوا مهمتهم في القمع على أكمل وجه، وهم في راحة تامة بعيداً عن الزحام وحركة المواصلات الكثيفة والجيران المزعجين وخاصة ثوار يناير الذين كانت لهم صولات وجولات في الأماكن القريبة: مجلس الوزراء، ومحمد محمود، وقصر العيني، وطلعت حرب، والتحرير، وغيرها!

المفارقة أن قائد الانقلاب رفض العدد الضخم من الجنود الذي خصص لحماية لاظوغلي الجديد، ورأى أن ألف جندي حراسة يتكلف 12 مليون جنيه شهرياً، وهو أمر لا يجوز في عهد الرخاء الغامر، وطالب باستخدام التكنولوجيا في الحراسة التي لا تفوت نملة، فهو حريص على أموال شبه الدولة – كما سماها – أي مصر التي كانت تسمي أم الدنيا قبل عهده بآلاف السنين!

وفي سياق منظومة الرخاء الغامر الذي عمَّ شبه الدولة في عهده السعيد، بدأ العمل في إنشاء السجن العاشر ومقره الخانكة؛ ليستوعب الأسرى في محافظة القليوبية، والسجن العاشر واحد من السجون التي أقيمت في عهد الانقلاب المبارك الذي جعل سعر الدولار يتضاعف في سنتين ونيف، ليستوعب من ضاقت بهم السجون القديمة والسجون التسعة التي سبقته، وهي كما رصدتها وكالة “الأناضول”: “سجن ليمان جمصة (شمال- أغسطس 2013م)، سجنا ليمان المنيا وشديد الحراسة المنيا (وسط- مارس 2014م)، سجن الصالحية بالشرقية (شمال- أبريل 2014م)، سجن الجيزة المركزي (غربي القاهرة- ديسمبر 2014م) سجن النهضة بالقاهرة (مايو 2015م)، سجن 15 مايو (جنوبي القاهرة – يونيو 2015م)، سجن أسيوط (جنوب- ديسمبر 2015م)”، وسجن مركزي جديد بمنطقة ملاحة الجزيرة غرب الطريق الدائري، بمدينة إدكو في محافظة البحيرة (شمال – فبراير 2016م)!

يذكر أنه يوجد في مصر ما يقارب 40 سجناً و382 مركز احتجاز داخل أقسام الشرطة، بخلاف السجون السرّية في معسكرات الأمن المركزي وفرق الأمن (جهاز أمني يتبع وزارة الداخلية)، وداخل المقرات العسكرية (التابعة لوزارة الدفاع).

وأوضح باحث في القانون أن النظام القانوني لمنظومة السجون بمصر يميل إلى فتح المجال للسلطات التنفيذية – خصوصاً وزير الداخلية – لإصدار قرارات خاصة بإنشاء سجون خاصة غير معروفة العدد، ولا تخضع لما تخضع إليه الأنواع الأخرى من السجون من رقابة قضائية وقانونية؛ الأمر الذي أدى إلى خروج العديد من مقار الاحتجاز عن إطار الرقابة القضائية!

وأضاف الباحث الحقوقي المصري أن استمرار بناء السجون دون النظر لوقف الانتهاكات الحقوقية الكبيرة التي تجري بمثيلاتها السابقة أمر غريب، يؤكد أن سياسة التوسع في تقييد الحريات هي الأكبر بمصر.

الانقلابيون كانوا يتهمون الرئيس محمد مرسي – فك الله كربه – أنه يكلف الدولة الملايين بتناوله لحوماً وبطاً وديوكاً رومية مع أهله وعشيرته، وهو اختلاق كاذب لا أساس له؛ لأن الرجل بسبب ظروفه الصحية لم يكن يتناول غير السندويتشات الخفيفة على حسابه الخاص، علماً أنه لم يتقاضَ مرتب الرئيس مكتفياً بمرتب الجامعة.

المليارات التي أنفقت على “تبهنس” لاظوغلي بعد قرنين من الزمان على إنشاء مقر جديد لوزارة الرعب، وسجون القمع والتعذيب؛ تطرح ملايين الأسئلة عن مصير التعليم والصحة والزراعة والصناعة والتصدير والتعدين والبترول والغاز والمصايد والثروة الحيوانية.. إلخ، متى تأخذ هذه الأمور حظها من المليارات التي يتم رصدها لتجديد لاظوغلي ونقله إلى الفضاء الرحب، وامتلاء السجون بعشرات الألوف من الضيوف؟

لا ريب أن وزارة القمع في مجتمع موحد متفاهم لا لزوم لها، ويجب إلغاؤها، فلا حاجة لجيش عرمرم قوامه نصف مليون من جنود الأمن المركزي وثلاثمائة ألف أمين شرطة، فشل في حراسة الوطن والناس، وازدهرت في عهده السرقات والاختطاف والجرائم الاجتماعية والخلقية، وترعرعت ممالك “الدكش” وأشباهه تحت رعاية النجوم الزاهرة والسيوف والعصيان المتقاطعة، والأدهى من كل ذلك أن دماء الضباط والأمناء تضيع هدراً وبسهولة شديدة كما حدث في حلوان مؤخراً، كما تتم تصفية أبنائنا الأحرار المساكين في البيوت والشوارع بدم بارد!

نحن في حاجة إلى عدد قليل من رجال الأمن المحترفين الذين يحمون الشعب كما يحدث في بلاد “الفرنجة”، لهم وزير مدني مثل فؤاد سراج الدين، ولا شأن لهم بالسياسة أو الانحياز لنظام الحكم، وخاصة إذا جاء بانقلاب.. نحن في حاجة إلى تجميع البلطجية في معسكرات إعادة تأهيل، وتصفير السجون من الشرفاء والنبلاء، وتحويلها مع المقرات الأمنية الكبرى إلى مدارس وجامعات لتقليل عدد المجرمين!

أما الأحوال المدنية والمرور والمطافئ والجوازات والجنسية والوثائق وتصاريح العمل في الخارج وإقامة الأجانب وغيرها، فأمرها ينهض به المدنيون في هيئات مستقلة دون لواءات أو أمناء.

الله مولانا، اللهم فرّج كرْب المظلومين، اللهمّ عليك بالظالمين وأعوانهم! 

Exit mobile version