المجتمع المنتج.. واقع وطموحات!

إنّ البلدانَ في هذا العصر إمّا متطورة وذات قدرة إنتاجية عالية، أو مستهلكة متخلفة، ولا يتعلق موضوع الفارق بين بلد منتج وآخر مستهلك بتوافر الثروات الطبيعية من عدمهِ، وإن كان ذلك يشكل عاملاً أساسياً نحو التطور عند توافرها مع حصول عوامل أخرى معه، ولا يمكن أن نطلق على أيِّ دولةٍ بأنها متطورة مع افتقارها للقدرة الإنتاجية.

ويحدد المختصون في المجال الاقتصادي عوامل شيوع السمة الاستهلاكية لمجتمع ما بأسباب عدة، منها انعدام التخطيط العصري، وقلة الوعي لدى السكان، والافتقار لرأس المال، ويضاف إلى ذلك عامل أساسي هو انعدام الاستقرار السياسي والأمني.

ويبقى العامل الأخير أهم تلك العوامل؛ لأن ما يعزز إمكانية النهوض لأي مجتمع بشكل فاعل هو وجود عاملين أساسيين بالدرجة الأولى؛ هما التخطيط، وتوفير رأس المال، وفي حالة الاضطراب الأمني لا يجنح الممولون بالمغامرة بأموالهم في بلد غير مستقر، وكثير من دول العالم التي حققت إنجازات ضخمة في هذا المجال، كانت فيما مضى مثقلة بالفقر؛ فاليابانيون الذين يمثلون الآن ذروة التقدم التقني وغزارة الإنتاج كان بلدهم إبان القرن التاسع عشر يمر بمجاعة مرعبة، حملت الكثير من أبناء ذلك البلد بالهجرة إلى أمريكا الجنوبية، في حين ذكر التاريخ لما بعد ذلك القرن وتحديداً أوائل القرن الماضي بأن أحد العوامل غير المباشرة للحربين الأولى والثانية هو غمر الأسواق الغربية بالبضاعة اليابانية ذات الجودة العالية مع غزارة الإنتاج.

إن معظم دول العالم المتقدم لديها خطط تنمية موارد بشرية شاملة، وتضع أهدافاً تنموية تتضافر لتحقيقها جميع القطاعات بصورة متكاملة، والتي من أهدافها تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.

ومما يجدر ذكره في هذا السياق الإشارة إلى موضوع غاية في الأهمية، وهو المجتمعات المنتجة؛ إذ هي مجتمعات تتضافر فيها جهود كل أبنائها للمساهمة بصورة إيجابية في عملية التنمية، وذلك من خلال إيجاد فرص عمل لأبنائها، بل قادرة على خلق أفكار تتبلور إلى أعمال ومشاريع حية، وذلك باستغلال موارد المجتمع المحلية المتوافرة.

المجتمعات التي تمر بأزمات اقتصادية أو نكبات نتيجة ظواهر طبيعية غالباً ما تعود إلى ما تمتلكه من رصيد موارد طبيعية حباها الله تعالى، فيتم استثمار ذلك، إلى جانب توظيف كل إمكانات المجتمع البشري للخروج من الأزمة.

إن تبني إستراتيجية تطوير قائمة على متطلبات المستهلك هو الطريقة الوحيدة لمتابعة مسيرة الابتكار، وقبل تقديم أي منتج جديد أو استهلال أي مشروع جديد، بغض النظر عن طبيعته، من الضروري أن يخصص الباحثون وقتاً لفهم احتياجات العملاء بالتفصيل، ودون شك، فالعملاء هم الجهة التي ستستخدم هذا المنتج وتقرر مدى نجاحه، لذا فمن المنطقي أن نأخذ متطلباتهم وتطلعاتهم في عين الاعتبار، وأن نجعلها محور ارتكاز لمجمل عملية تطوير واستعمال المنتج، وهذا الأمر يشمل قنوات لا حصر لها، تبدأ بالحصول على المواد الأولية، وتمر بمزايا وتأثيرات المنتج، وتنتهي بطرائق التخلص منه، لا بل إنها تصل إلى حد معرفة المعايير الجمالية التي تفضلها شريحة العملاء المستهدفة واعتمادها في مراحل تصميم عبوته وغلافها، وتعيين مقومات تجربة التسوق التي يفضها العملاء لتحديد المكان الأمثل لعرض المنتج، وضمان رؤية أكبر عدد من أفراد شريحة العملاء المستهدفة له، فضلاً عن توفير قنوات مناسبة ليعبر العملاء عن آرائهم بالمنتج عبرها.

ومن دون تخصيص الوقت الكافي للقيام بالأبحاث المطلوبة، فإن عملية الابتكار برمتها هي أشبه بالمغامرة غير المحسوبة، فهي تغدو ابتكاراً لغرض الابتكار لا أكثر، عوضاً عن أن تكون مدفوعة بالاحتياجات البشرية.

إن الابتكار القائم على فهم متطلبات العملاء يحتاج وقتاً ليحرز النجاح، ويحتاج جهداً لتحفيز التعاون، ويحتاج صبراً لمعرفة المهارات الواجب اللجوء إليها في موقف معين، إلا أن النتائج المستدامة تضمن نمواً صحياً يحرز النجاح ويستحوذ استحسان العملاء لكل منتج.

وتمثل النخبة الأكاديمية أو مدرسو الجامعات أهم النخب الفكرية التي تستطيع التأثير ووضع السياسيات والخطط التي يمكن لأي دولة ما أن تنهض بواسطتها، وفي بلادنا للأسف أعتقد أن هذه النخبة المشار إليها لا تقوم بذلك الدور المناط به، وأعتقد أن ذلك يعود إلى العديد من الأسباب.

ومن ذلك: قلة الإنتاج الأكاديمي، أو ممارسة البحث العلمي الذي يفترض أن يميز هؤلاء عن غيرهم، حيث يلاحظ أنه ليس هنالك إنتاج من قبلهم أو أنه قليل، ولا يرتقي إلى ذلك المستوى الذي ينتجه أكاديميو أي جامعة في الخارج، حيث يغيب إنتاجهم ويخفت بريقهم بعد تثبيتهم وحصولهم على تلك الدرجة الوظيفية، وكأن المهمة الرئيسة في دراستهم ومواصلتهم هو الحصول على درجة وظيفية فقط، ومن ثم العزوف عن فكرة ممارسة البحث العلمي وإنتاج أبحاث متواكبة مع التقدم العلمي والتقني والاجتماعي.

في الحقيقة، لقد فاجأني مما رأيته في جامعاتنا وما ينتجه أكاديميونا من دراسات وأبحاث ومقالات، والذي للأسف لا يمكن مقارنته ولا مجابهته مع أي جامعة أخرى في دول مجاورة أو دول غربية، فحريٌّ بأكاديميي الجامعات أن يفتحوا نوافذهم المعرفية واستشعار المستوى الذي هم فيه والدرجات العلمية التي يحملونها، وأن يجسدوا سلوك ودور الباحث العلمي المستمر والمتطور.

ومن هنا، فإن الحاجة ملحة في إعادة النظر في مسألة الالتحاق بالسلك الأكاديمي، وضرورة اعتماد شروط جديدة تتواكب مع الاهتمامات الحديثة، والإلمام بمسألة الإنتاج والبحث، وعدم اقتصار تلك الشروط والمعايير على أوائل الدُّفع أو ما شابه ذلك، فنظرة أغلب الطلاب اليوم هي باتجاه حجم ومقدار إنتاج الشخص الفكري والعلمي والأكاديمي في مجال تخصصه والمجالات المهمة في المجتمع، حتى تتحول تلك الجامعات إلى منتج ليس فقط للمعرفة وإنما منتج للعقول الواعية والنيرة العاقلة.

Exit mobile version