حبيبة.. وأبو تريكة

حفيدتي حبيبة عمرها أكثر قليلاً من سنتين، وحيدة والديها وتحب اللعب، عندما تزورني تطلب أن أكون الفريق الآخر الذي ينافسها، أقول لها: يا حبيبة، الفريق المنافس عمره سبعون عاماً ولا يستطيع الوقوف على قدميه إلا بصعوبة، وأقل جهد يرهقه ويضنيه ويجعله يلجأ إلى السرير لمدة طويلة.

أجلس على كرسي وأقذف الكرة بيدي، لتحضرها بعد قليل، وتتكرر العملية حتى ينقذني بعض من في البيت ليواصلوا اللعب معها، ولكني في كل الأحوال أضاحكها وأقول لها: سآتي بأبو تريكة ليلعب معك.

أبو تريكة من النماذج الرياضية المتفردة التي عرفتها كرة القدم خلقاً وسلوكاً وانتماء، في أواسط الستينيات كان هناك لاعب اسمه رضا في النادي “الإسماعيلي”، قضى نحبه في حادث سيارة، غمرنا نحن الشباب حينئذ حزن عظيم على موته، ونعيته في الإذاعة المدرسية قبل أن تظهر الصحف في اليوم التالي حاملة خبر رحيله، ظهر من بعده الشيخ طه، ولعلهم لقبوه بالشيخ لأدبه وأخلاقه، وسمعت حين صرت مجنداً في الجيش عقب الهزيمة الفاضحة الفادحة في عام 1967م أنه ضمن ضباط الاحتياط في معسكر التدريب الذي كنا نقضي فيه نحن المجندين مرحلة التدريب الأساسي، وكان محمد لطيف أشهر المعلقين الرياضيين وأخفهم دماً يشيد بالشيخ طه، وجاء محمود الخطيب ليحظى بحب الجماهير من المنتمين للأندية المختلفة، ومثله ربيع ياسين الذي اشتهر بحسن الخلق والتدين، الجماهير تحب اللاعب المحترم وترثي لشحاتة أبو كف، لأنهم يرون أن السلوك الخلقي جزء من تكوين الشخصية المصرية.

كان أبو تريكة نموذجاً للاعب الذي رأت فيه الجماهير تعبيراً عن أمانيها في المتعة الرياضية والسلوك الخلقي والتدين الفاعل، جماهير الزمالك والترسانة والمحلة والسكة الحديد والترماي والبحرية ترى فيه نموذجاً يوحدها، ويحظى بحبها.

علاقاته مع زملائه يسودها الود والاحترام والتسامح، اهتمامه بالقضية الأم – أعني قضية فلسطين – راسخ في وجدانه، وعبر عنه بتأييد أهل غزة – الذين يقتلهم اليهود النازيون الغزاة – من خلال القميص الذي ارتداه عام 2008م في مباراة تشد أنظار العالم، ولعله كان أول لاعب يسجد لله شكراً على أرض الملعب حين فاز فريقه، لم يحصل أبو تريكة على بطاقة حمراء طوال تاريخه (البطاقة الحمراء إنذار بالطرد من الملعب بسبب خطأ جسيم).. من المواقف النبيلة ارتداء قميص “فداك يا رسول الله” عند إعادة نشر الرسوم الدنماركية المسيئة عام 2008م، وقيامه بالسفر إلى الجزائر عام 2010م في مبادرة صلح بين الشعبين المصري والجزائري عقب أحداث أم درمان التي افتعلها بعض المرتزقة، وإعلان دعمه وتشجيعه للمنتخب الجزائري في بطولة كأس العالم التي انعقدت بجنوب أفريقيا، وعندما اختير أبو تريكة سفيراً لبرنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة لمحاربة الفقر، وصف أبو تريكة عمله قائلاً: “الإسلام يعالج الفقر من خلال الزكاة؛ لأن الغني يشعر بمحنة الفقراء، ويجب علينا أن نساعد الفقراء بقدر الإمكان حتى لا يشعروا بالغربة في المجتمع”، وقام أبو تريكة بتصوير إعلان إنساني تلفزيوني يركز على وفاة حوالي 25 ألف شخص يومياً من الجوع، منهم 18 ألف طفل، ويعلق أبو تريكة علي هذه المأساة قائلاً: إنه انتابه إحساس أثناء تصوير الإعلان برغبة عارمة لمساعدة هؤلاء المحتاجين بقدر الإمكان، كما أعرب عن استعداده التام لزيارة أي بلد أفريقي ليوجه رسالة إلى باقي نجوم الرياضة عن محنة ملايين الأشخاص ومعاناتهم من الفقر والجوع.

وتقول موسوعة “ويكيبيديا الحرة” عن دوره الإنساني: “في عام 2005م انضم أبو تريكة إلى اللاعب البرازيلي رونالدو واللاعب الفرنسي (الجزائري الأصل) زين الدين زيدان، إضافة إلى 40 من نجوم الكرة العالمية في “مباراة ضد الفقر” من أجل جمع التبرعات والتوعية بمحاربة الفقر في شتى أنحاء العالم، وانعقدت المباراة الإنسانية في ديسمبر بمدينة دوسلدورف الألمانية، بدعم من الاتحاد الدولي لكرة القدم وبرعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية، كما كان لأبو تريكة العديد من المساهمات الخيرية الأخرى، مثل تبرعه لإنشاء مسجد كوماسي في غانا عام 2008م، وقام بافتتاحه عام 2013م، ومسجد في رواندا عام 2009م، كما قام بالتبرع لصالح أسر ضحايا مذبحة بورسعيد عام 2012م، وعندما منحه نجيب ساويرس مكافأة تقدر بمليون جنيه عام 2013م تقديراً لإنجازاته، قام أبو تريكة بالتبرع بالمبلغ لصالح الجمعيات الخيرية”.

شارك أبو تريكة مؤخراً في مباراة مع منتخب نجوم العالم في الكويت، ورفض أن يأخذ 50 ألف يورو مثل بقية اللاعبين الدوليين الذين شاركوا في المباراة قائلاً: إنه لم يفعل شيئاً، وجاء ليشارك الشعب الكويتي فرحته، مما حدا بأمير الكويت أن يطلب مصافحته والتصوير معه تقديراً لموقفه وعرفاناً بعفته.

لا شك أن هذا الموقف المتعفّف من مصري استحق إعجاب الجماهير في مصر وخارجها، لدرجة أن كتَّاب البيادة الذين جرّحوه وأهانوه وسبوه وشتموه انقلبوا على أعقابهم، وأشادوا بسلوكه الذي رفع من مكانة البلاد بعد أن هبط بها من مدّوا أيديهم للتسول وطلب المساعدة، وهذا تصويب حميد لخطأ شنيع ارتكبه الانقلاب ضد كثير من شرفاء الوطن من بينهم أبو تريكة.

لقد تمت مصادرة أموال أبو تريكة الحلال بحجة التحفظ عليها لأنه ينتمي إلى ما يسمونه الجماعة الإرهابية، وهو تصرف غير منطقي، وغير واقعي؛ لأن مهرجان المصادرات والاستيلاء على الجمعيات والمدارس والشركات والمؤسسات التابعة للإسلاميين، يعطي إشارة غير طيبة لمن يسمونهم بالمستثمرين في الداخل أو الخارج، ويجعلهم يسحبون أموالهم من السوق، ويفكرون في الخروج إلى دول أكثر أماناً، ويعزز ذلك ما تواتر عن تهريب كميات هائلة من الأرصدة خارج الحدود!

كانت المفارقة أن يفرج عن أموال بعض الجلادين الذين أذلوا الشعب المصري قبل ثورة يناير، وتُصادَر أموال الشرفاء الذين شاركوا في الثورة أو أيدوها.

على كل حال؛ فإن الإشادة بتصرف أبو تريكة في الكويت وتقدير الأمير له، يجعلنا لا نلتفت إلى تلك الأقلام التي لم تتوضأ أبداً، وتصر على أن الرجل إخواني ماسوني إرهابي يفضل الجماعة على الوطن، فهؤلاء من أردأ أنواع كتَّاب البيادة؛ لأنهم نسوا أن من لا دين له لا وطن له، وطالعوا التاريخ.

ومعذرة لحبيبة على استطرادي، فقد رافق أبوها بحكم عمله الصحفي اللاعب أبو تريكة في بعض المباريات الدولية وأحبه عن قرب لما لمسه فيه من دماثة وتواضع وأدب جم.

الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

Exit mobile version