مأزق المفكر الاقتصادي

ليس من السهل أن تكون مفكراً اقتصادياً؛ فالمديرون التنفيذيون للشركات يهاجمونهم لعدم حسابهم التكاليف والأرباح بالدقة المطلوبة، ويتهمهم محبو الأعمال الخيرية بأنهم شديدو التدقيق في التكاليف والأرباح.. أما الساسة، فينظرون إلى المفكرين الاقتصاديين على أنهم هادمو اللذات الذين لا يسمحون للساسة بأن يعدوا الجماهير بتحقيق الرخاء دون تقديم أي تضحيات.

وقد كرس عدد من الكتَّاب الساخرين وقتهم لمهاجمتهم؛ أمثال جورج برنارد شو، وتوماس كارلايل، وفي الواقع بدأ موسم الهجوم على المفكرين الاقتصاديين منذ أن أطلق كارلايل على الاقتصاد اسم “العلم الكئيب”.

يشعر الاقتصاديون بأنهم يهاجَمون ظلماً؛ لأنهم عادة ليسوا المتسببين في الأنباء السيئة، بل هم من ينقلونها فحسب، والرسالة يسيرة: على البشر أن يُقدِموا على خيارات صعبة، فالجنس البشري لا يعيش في جنة، والعالم لا يمتلئ بأنهار اللبن والعسل، وعلينا أن نختار بين الهواء الأنقى أو السيارات الأسرع، بين المنازل الأكبر أو الحدائق الأكبر، بين المزيد من العمل أو المزيد من اللهو.

إن المفكرين الاقتصاديين لا يقولون لنا: إن أياً من هذه الأشياء سيئ، لكنهم يقولون فقط: إنه ليس بوسعنا أن نملكها كلها في الوقت نفسه، إن علم الاقتصاد معني بدراسة الخيارات؛ فهو لا يخبرنا يما يجب علينا اختياره، بل يساعدنا فقط على فهم تداعيات اختياراتنا.

بالطبع، لم يرضَ المفكرون الاقتصاديون الأوائل بممارسة دور ناقلي الأخبار وحسب، وعلى الرغم من أنهم نالوا ألقاباً ساخرة وغير مهذبة – مثل سميث الأخرق، ومل المتذاكي وكينز الشهواني، وما إلى ذلك – فلا يمكن أن نستخف بهم بسبب دوافعهم.

ومن قبيل المفارقة أن المفكرين الاقتصاديين ينالون بالمثل في أيامنا هذه الكثير من الانتقادات اللاذعة؛ ذلك لأنه – كما لاحظ كينز – بدأ الكثير منهم كفاعلي خير يبحثون عن وسائل لجعل العالم أفضل.

وقد اعتبر ألفريد مارشال أن الاقتصاد مهنة ينبغي أن تمزج بين العلم السديد والإخلاص للبشر، وفيما كان الناس في العصور الوسطى يرون أن هناك ثلاث مهن عظيمة؛ وهي الطب الهادف لتحقيق الصحة البدنية، والقانون الهادف لتحقيق الصحة السياسية، واللاهوت الهادف لتحقيق الصحة الروحية، كان مارشال يأمل في أن يصبح الاقتصاد المهنة النبيلة الرابعة التي تحقق مستوى أفضل من الصحة المالية، ليس للأغنياء فقط ولكن للجميع.

لقد حاول مارشال ببسالة أن يتوسط بين اتجاهين مؤثرين متعارضين؛ اتجاه نحو اقتصاد رياضي صرف دون أي تطبيق عملي، واتجاه يميل إلى التطرف العاطفي التام دون تفكير نظري دقيق.

إن المنهج الذي حارب مارشال من أجل تأسيسه في كامبريدج جمع بين أشد العقول علمية وأشدها عاطفية، وكان كينز بالطبع أروع نتيجة لهذا المنهج.

لطالما كانت السياسة أقوى رابط بين الاقتصاد والواقع، في الواقع كان الاقتصاد حتى هذا القرن يطلق عليه اسم “الاقتصاد السياسي”، وخدع السواد الأعظم من ألمع المفكرين الاقتصاديين في المناصب الحكومية بشكل أو بآخر، وفاز اثنان منهم؛ وهما ديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت مل، في الانتخابات البرلمانية في بريطانيا.

إننا لا نرى في أعظم الاقتصاديين لمحة من الاهتمام العلمي وحسب، لكن قدراً كبيراً من الشغف أيضاً، ونرى في الرموز العديدة للحسابات والإحصاءات علامات واضحة على الاهتمام.

ليس من الصعب معرفة السبب في أن الساسة يسيؤون فهم مستشاريهم الاقتصاديين؛ فالاقتصاديون يتكلمون بعضهم مع بعض بلغة مختلفة عن تلك التي يستخدمونها مع العامة، إنهم يتكلمون بلغة النماذج، ففي محاولاتهم لتفسير ذلك العالم المعقد المسمى بالاقتصاد، يجب أن يبدؤوا بتبسيط العوامل القليلة المهمة في وقت الدراسة؛ ذلك لأن كل ظاهرة اقتصادية قد تتأثر بآلاف الأحداث.. فمثلاً، يمكن أن يعتمد مستوى إنفاق المستهلك على بعض مما يأتي: الطقس، الأذواق،  الدخل، التضخم، الحملات السياسية، ولفصل العوامل الأهم وترتيبها، على الاقتصاديين أن يصمموا نماذج تعزل مجموعة من هذه العوامل اللانهائية المحتمل تأثيرها على الظاهرة الاقتصادية، وأبرع الاقتصاديين هم من يصممون أقوى النماذج وأقدرها على الاستمرار.

Exit mobile version