صعود الأردوغانية (العثمانية الجديدة)

نموذج أردوغان رسم صورة إيجابية للإسلام والمسلمين مثلما فعل مهاتير محمد في ماليزيا، وكان ذلك موضع اعتزازنا؛ حيث كان دليلاً دامغاً على فك الارتباط بين الإسلام والتخلف.

نموذج مهاتير في مجتمع يمثل المسلمون فيه أكثر قليلاً من النصف هو نموذج آسيوي في بلد متنوع العقائد والأعراق، وتمكن برؤيته وشجاعته واستقلاله الفكري والسياسي من أن يتغلب على المعوقات الداخلية والخارجية، وأن يحقق لبلده وضعاً متميزاً في سجل الحضارة المعاصرة.

على الضفة الأخرى، كان لي كوان يو في سنغافورة التي يغلب عليها المذهب البوذي تضرب مثلاً آسيويا آخر في التنمية؛ لكي تبرهن على أن التنمية لا علاقة لها بالدين، وإلا كانت اليابان مثلاً أعلى بسبب العقيدة الشنتوية.

على الجانب الآخر، نظر المسلمون إلى النماذج اليابانية والسنغافورية على أنها نماذج صنمية، وأن الله أعزهم بالإسلام وإن اقترن بالتخلف تعويضاً لهم وترويحاً عن خاطرهم، وهذا عجز أخلاقي وصورة سلبية للدين الخالد الذي سادت حضارته في عصور الظلام.

أما نموذج أردوغان فقد كان محبباً إلينا لأكثر من سبب؛ الأول أنه نفض عن الإسلام والمسلمين تهمة التخلف، دون أن يفرط في الإسلام الصحيح، وهذه أعظم خدمة لهذا الدين، والثاني أنه نموذج آسيوي/ أوروبي، فجمع بين خصائص الثقافة الإسلامية والآسيوية والأوروبية، والثالث أنه نموذج في دولة كانت إمبراطورية عظمى لعدة عقود هي الإمبراطورية العثمانية التي قامت أساساً على العقيدة الإسلامية، والرابع أن تركيا الحديثة تخلصت من ماضيها العثماني وصارت علمانية، فأثبت النموذج الأردوغاني أن الروح التركية إسلامية والأرضية روحانية، رغم قسوة العلمانية وشراستها واعتقادها أن العلمانية تناهض الإسلام، بخلاف العلمانية التي قامت في مجتمع يهودي أو مسيحي.

وقد حاول أردوغان أن يقدم العثمانية الجديدة في تصالح مع علمانية أتاتورك، ليجعل صفحات التاريخ التركي منسجمة وليست مراحل متعارضة، رغم القسوة التي أعاد بها أتاتورك تشكيل تركيا الحديثة العلمانية، بل إن جزءاً مهماً من شرعية نظام أردوغان هو المزج بين العلمانية والإسلام، ليكون نموذج الإسلام العلماني نموذجاً جديداً في النظم السياسية، وهو ما أغضب الإخوان المسلمين في مصر الذين يفهمون العلمانية كما فهمها أتاتورك مناهضة للدين.

الأردوغانية تقوم على المزج بين العلمانية والإسلام، مع قاعدة إسلامية راسخة تقوم على الإنجاز وليس على السفسطة الفقهية الفارغة، وتجمع بين الثوابت الأصلية وبين التحديث، وثالثاً ضرب أردوغان مثلاً في الفعالية الاقتصادية، فشعر الأتراك بعمله وليس بالخطب البلهاء، واهتم العالم بالنموذج التركي.

وتقوم الأردوغانية رابعاً على الاستفادة من انتماءات تركيا الإسلامية والآسيوية والأوروبية، وتاريخها العربي وثقافتها الشرقية، فزاوج بين كل ذلك وبين علاقاته مع “إسرائيل” وواشنطن وموسكو وعضوية “الناتو”، وبلغ أردوغان مرتبة عالية أغرته بأن يعلن أن تركيا لا تواجه أي مشكلة.

وخلف هذه الرؤية مساندة شعبية كاسحة، للقضاء على أخطر مهددات الديمقراطية وهما وصاية الجيش والقيادات العسكرية عن طريق الانقلابات، والثانية تحالف المحكمة الدستورية مع الجيش ضد الإصلاحات الديمقراطية باسم حراسة العلمانية.

وكان طبيعياً أن تتحالف ضده كل القوى التي حجمها أردوغان، خاصة عندما طمح إلى رئاسة الدولة بعد أن استنفد دستورياً مرات رئاسة الوزراء حتى يتمكن من إحياء العثمانية الجديدة، وهكذا أدى طموح أردوغان وغروره ومحاصرته بالمشكلات إلى أن نقرر أن مقومات أفوله أكثر من مقومات استمراره، ونذكر من مقومات الفناء عشرة كبرى على الأقل:

أولها أنه بالغ في إذلال الجيش استجابة لخوفه من الانقلابات؛ مما دفع الجيش إلى التربص به ريثما تضعف قواه، ولذلك لا نستبعد سقوط هذا البناء الديمقراطي النموذجي في بلد إسلامي عريق بانقلاب عسكري، والعامل الثاني مبالغته في إذلال القضاء؛ مما أوغر صدور القضاة خاصة مع تداول بعض أخبار قضايا الفساد المرتبطة بحزبه.

والعامل الثالث هو مبالغته في اجتزاز جولن الذي سانده في رحلة الصعود، وصار أشبه بحمى مطاردة الإخوان في مصر، فالمكارثية الأردوغانية لا تقل عن المكارثية السيسوية في مصر، العامل الرابع هو الانقلاب على الأكراد وإعادة فتح ملف الصراع بدعم “إسرائيلي” وأمريكي، حيث لم تسترح “إسرائيل” وواشنطن لصعود النموذج التركي.

العامل الخامس الصراع المروع بين مشروع أردوغان والمشروع الصهيوني حول غزة، وحادث مافي مرمرة في مايو 2009م، والنكسات الدبلوماسية لتركيا في هذا الملف، العامل السادس هو المبالغة في معاداة نظام السيسي في مصر، صحيح أن هذا العداء مفهوم في ضوء مخاوف أردوغان، لكن أردوغان بالغ في رد الفعل بما يضر العلاقات التاريخية بين مصر وتركيا.

العامل السابع أنه اتخذ موقفاً غريباً مريباً تجاه “داعش”، ولعب بورقة الإرهاب والأكراد اللتين تلعب بهما “إسرائيل” وواشنطن، العامل الثامن هو أن أردوغان الطامع في الأراضي السورية نسف النموذج المثالي في العلاقات التركية السورية، فبالغ في عداء الأسد، كما بالغ في عداء السيسي، كل لسبب مختلف.

أما العامل التاسع فهو الجور على الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت من إبداعاته وإنجازاته، العامل العاشر أنه فشل في طي ملف الأرمن، فأصبح الملف مع ملف الأكراد شوكة في خاصرته، فتجدد إرهاب الأكراد، كما التبست علاقته مع العراق، خاصة وأنه يتحايل مع واشنطن للضغط على إيران في سورية بإنشاء منطقة عازلة، لم توافق واشنطن عليها ولكنها تساعد على إنشائها.

الخلاصة هي أن الأردوغانية التي لمعت في سماء العالم الإسلامي وأوروبا وأنشأت نظاماً ديمقراطياً احتشد الشعب لحمايته من تغول القيادات العسكرية والقضائية قائماً على الاستقلال الخارجي وخدمة المصالح الوطنية مع الجمع بين العلمانية والإسلام في حداثة جديدة؛ هذا النموذج يبدو لنا للأسف أنه يتهاوى للعوامل العشرة التي أشرنا إليها، وهذا الأفول يمثل خسارة كبرى للقضايا الإسلامية والعربية ولنموذج الديمقراطية في العالم الإسلامي.

Exit mobile version