أنا.. وهي.. ورمضان..

رمضان.. والمرض

أنا:

أشارك المرضى – كطبيب ومريض – شعورهم الجارف بألوان المشاعر المختلطة بالحزن والكرب والتقصير والضعف، حين يأتي شهر الصيام ويمنعهم المرض من الانضمام إلى قافلة الصائمين.

يحتاج المريضُ منا إلى من يقنعه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، التي ترحم حاله، وترخص له الرخصة الربانية.. “.. فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر…” (البقرة – 185). ساعتها أذعن أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.

ولا تزال ترتجف أعصابي من دغدغة المشاعر.. ما أصعب أن تجد الناس يسارعون إلى الدخول في أبواب المغفرة وأنت واقف في مكانك لا تطيعك قدمك من الألم، أو قلبك من الوجع، أو صدرك من الاختناق.

ومن المرضى من تفيض أعينهم من الدمع حزناً ألا يجدوا القدرة على صيام رمضان، ولعل هذا البكاء الصامت أحياناً وفي الخلوة أحياناً أخرى لأثقل من الصيام وزناً عند الله، فالمريض يُؤجر على نيته في الصيام ويزيد عليه هذا الصدق المخلص في الشعور بالتقصير وفوات الموسم!

“إن بالمدينة لرجالا ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر” (البخاري)، وفي رواية مسلم “حبسهم المرض”.

ومعنى الحديث، أن الإنسان إذا نوى العمل الصالح، ولكنه حبسه عنه حابس، فإنه يُكتَب له أجر ما نوى. أما إذا كان يعمله في حال عدم العذر، أي لما كان قادراً كان يعمله، ثم عجز عنه فيما بعد، فإنه يكتب له أجر العمل كاملاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً” (البخاري).

وفي الحديث: “ما أحد من الناس يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه فقال اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي” (رواه أحمد – صحيح على شرط الشيخين).

زوجتي.. من حكمة المرض ما وجدته منك وقت ألمي وعجزي ما يخفف ألمي، ويزيد قوتي. وقد تسهرين في ليالي رمضان لا لصلاة القيام، وإنما القيام على راحتي وإيناس وحشتي حين يشتد المرض في الليل.. كأنك مَلَك من البشر يتنزل برحمات السماء في رمضان! ويكون ذلك أثقل عند الله من التراويح.

تتقلب الحياة يا زوجتي بين قوة وضعف، ومرض وصحة، ورخاء وفقر..

وحضور رمضان بخيراته على ساحة المريض، تجعله يندم على تقصيره وقت صحته.. وفي هذا الندم جلاء لصدأ سنوات الغفلة التي ترسبت على قلبه.. “وخذ من صحتك لمرضك”.

 وحضور رمضان للزوج أو الزوجة وقد منع المرض أحدهما عن الصيام، يُظهِر المعدن الأصيل للصحيح المعافى منهما. ولا أنسى صورتك وأنت شاحبة الوجه من السهر تشاركينني ألمي، تضعين اللقمة في فمي في صباح رمضان، كي أتقوى برخصة الرحمن الرحيم.

إن الذي يعاند بعد أن أفتاه المفتي والطبيب، ثم صام واشتد مرضه قد أوشك أن يقع في المعصية.

وقد حُرِم من رحمة شقيق قلبه وشريك حياته، حين يذوب عليه شفقة ورِقة وحباً، ويملأ جنبات البيت أشعة الأمل في الشفاء، من نور الآيات القرآنية وضياء الرّقَى النبوية، في مشاركة زوجية تصنع المعجزات فتجبر المكسور، وتشرح الصدور!

هي:

إن الإنسان منا – يا زوجي- يتقلب بين منزلتين عظيمتين، منزلة الصبر، ومنزلة الشكر، مصداق ذلك قول طبيبنا صلى الله عليه وسلم: “عجبًا لأمرِ المؤمنِ. إن أمرَه كلَّه خيرٌ. وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ. إن أصابته سراءُ شكرَ. فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراءُ صبر. فكان خيرًا له” (مسلم). وكل منزلة منهما هي أعظم من الأخرى. والسعيد من نجح في اختبار المرض فصبر، وتخطى فتنة العافية فشكر، قال تعالى: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة”. أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى، نختبركم بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلال، فننظر من يشكر ومن يكفر ومن يصبر ومن يقنط.

فالدنيا يا زوجي جمعت الضدين، وهي لا تستقر على حال، ولا تخلو من كدر وإلا صارت جنة، لكن السعيد فيها من رضي بقضاء الله، وأيقن أن ما أصابه من مرض هو خير له، وإن بدا غير ذلك.

والمرض – يا زوجي – مع ما فيه من ألم ومشقة، إلا أنه يعود بالعبد إلى ربه عَوداً حميداً، فيلجأ إليه ضارعاً مناجياً بصدق قلّ أن يجده في أيام الصحة والعافية، تراه يذلّ بين يديه مخبتاً منيباً منكسراً تائباً، ولعل ذلك هو السر في تكفير السيئات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما يصيبُ المؤمنَ من وصبٍ، ولا نصبٍ، ولا سقمٍ، ولا حَزنٍ، حتَّى الهمَّ يُهمُّه، إلَّا كفَّر به من سيِّئاتِه” (مسلم)، “ما يصيبُ المؤمنَ من شوكةٍ فما فوقها، إلَّا رفعه اللهُ بها درجةً، أو حطَّ عنه خطيئةً” (مسلم)، ولعل ذلك أيضاً لمن ابتلي بالمرض في رمضان إذا ما تعانق مع الصبر الجميل يأتي بالرحمة والمغفرة والرفعة كالتي ننشدها في رمضان بالصيام، وإن لم يصم المريض!

أرى – يا زوجي – رحمة الله في كل أقداره تشملنا، في الصحة والمرض على السواء.. فهو سبحانه القائل: “وما جعل عليكم في الدين من حرج”.. فكيف بنا – يا زوجي – لو كان الصوم فريضة على كل مريض، ماذا يفعل مع دائه ودوائه وضعفه ووهنه؟ ماذا يفعل أصحاب الأسرّة البيضاء وهم يتقلبون على فرشهم من شدة الألم؟

فما أجمل أن يأخذ المريض برخصة الله له بالفطر في رمضان، بل قد يكون الفطر عزيمة إذا ما زاد بالصوم مرضه أو تأخر به شفاؤه، ولا سيما إذا نصحه طبيبه بالفطر فلم يفطر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تؤتَى رخصُه كما يحبُّ أنْ تؤتَى عزائمُه” (صححه الألباني).

ومع ابتلاء المرض والصبر عليه – يا زوجي –  تأتي الأعطيات والمنح الربانية، أراها تتنزل على المرضى تترا، أعيشها معك حينما تصاب بوعكة صحية لا يزال لسانك فيها رطباً بذكر الله ودعائه، تزيد فيها من إحساسي بنعمة العافية، وأتذوق معك حلاوة الصدق في اللجوء إلى الله، وقيمة الرضا في مثل تلك المواقف، وأهمية الصبر والثبات الدال على الرضا، فأزداد إيماناً وتعلقاً معك بالله، وتلك أعظم الأعطيات في محنة الابتلاء.

وثمة أعطية أخرى تجدها في تعانق مشاعر الزوجين عند مرض أحدهما، فيتألم الآخر لألم شريكه ويتداعى من أجله وكأنه هو المريض، يلف معه ويدور أينما دار، يطعمه بيديه ويداويه بنفسه، ويسهر لراحته، ويتمنى لو كان هو المريض بدلاً منه، فلا تعجب – يا زوجي – إن سهرتُ يوماً على تمريضك، أو شحب وجهي خوفاً عليك، فهذا الذي ينبغي أن يفعل كل منا تجاه الآخر، وقد تعلمتُه منك، ورأيته في لهفتك عليّ أيضاً إذا ما مرضت أو تألمت، ومسارعتك بإحضار العلاج والتخفيف عني وخدمتك لي، فأتلذذ أحياناً بالمرض لما أرى من عطفك وشفقتك ولما ألمس من حبك ورحمتك، فيخفّ ألمي وإن كان شديداً! فكيف بعطف الله ورحمته! أفلا يكون الأولى بي وبك وبكل مريض أن يكون تلذذه بمعية القادر الشافي أكبر، ومشاهدة فضله وآلائه أعظم، والصبر على بلائه أكثر؟ 

ولئن كان لك الأجر لمرضك فلا أقَلّ من أن أطلب أنا أيضاً الأجر في تمريضك، ألم يتخلف عثمان – رضي الله عنه – عن غزوة بدر لتمريض زوجه رقية، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فللمريض حق الرعاية، ويعجبني الوفاء لا سيما حال المرض، وإنني أتعجب ممن يهمل رعاية أبويه الكبيرين حال مرضهما، أو يطلق زوجته لمرضها بدلاً من معالجتها، ومَن تخلع نفسها من زوجها بسبب مرض يحتاج رعايتها له فيه.. كما يعجبني مشاركتنا المريض ألمه وذلك بزيارته والدعاء له والتنفيس له في الأجل، وحثه على الصبر وتذكيره بالأجر، ورعاية أولاده وأهله، وشكره على أن كان سبباً في الخير لنا.. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن عادَ مريضًا؛ ناداه منادٍ من السماءِ: طِبتَ وطابَ ممشاكَ، وتبوأتَ من الجنةِ منزلًا” (صحيح الترغيب)، “من عادَ مريضاً خاضَ في الرحمةَ….” (صححه الألباني)، “من عاد مريضًا، لم يزلْ في خُرفَةِ الجنَّةِ. قيل: يا رسولَ اللهِ! وما خُرفَةُ الجنَّةِ؟ قال: جناها” (مسلم).

 فما أجمل أن نخوض في الرحمة بزيارة المريض، وما أعظم زيارته في رمضان، فرمضان – يا زوجي – شهر الرحمة..

Exit mobile version