في مواجهة الانتقام الوحشي

د. حلمي محمد القاعود

يقول عبدالرحمن الكواكبي: “إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النّبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام..”.

هذا التوصيف للعلاقة بين المستبد والرعية يكشف طبيعة الانتقام الوحشي الرخيص الذي يمارسه الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ضد المصريين الرافضين له، بل ضد من انخدعوا به وأيدوه، فهو الآن لا يراعي أي اعتبار دستوري أو قانوني أو خلقي أو اجتماعي أو غيره، إنه ينتقم بوحشية لأنه يستشعر في داخله ذعراً رهيباً نتيجة الجرائم التي يرتكبها من قتل وحرق وترويع ومداهمات وانتهاكات واعتقالات وتعذيب واغتصاب وممارسات عنصرية غير مسبوقة وتكميم للأفواه ومصادرة للآراء والممتلكات، وتشهير بالشرفاء في أبشع سياقات الكذب والتدليس والتضليل.

لقد قتلوا د. فريد إسماعيل إهمالاً قبل أيام وهو سجين لا يملك من أمره شيئاً، ويقتلون وحشية وقسوة محمد صلاح سلطان، ووالده د. صلاح سلطان بالتبعية، كما يقتلون استهانة وانتقاماً أكثر من 50 ألفاً من أنبل أبناء مصر وأكثرهم علماً وفضلاً وراء القضبان، كما يقتلون الشعب المصري كله بما فيه من يؤيدونهم بالغلاء والظلم الاجتماعي والعنصرية الفاشية التي تفرق بين ابن القاضي وابن الزبال!  

لقد عاقبوا فريد إسماعيل؛ لأنه تبنى إعادة هيكلة وزارة الداخلية والجيش حين كان عضواً بالبرلمان، مع أنه وضع تشريعاً لرفع مرتباتهم أربعة أضعاف، ولكن الهيكلة ترعبهم، وأسرّوها في أنفسهم حتى جاء الانقلاب، فجاؤوا به إلى سجن العقرب، والزنزانة المنفردة، وحرموه من العلاج والتحاليل والأشعة والانتقال إلى المستشفى، حتى أوشك على الموت فذهبوا به إلى أحد المستشفيات مكبلاً حتى قضى نحبه! يا له من حنان سابغ على الشعب المصري والرجل يلفظ أنفاسه!

لقد رد المجلس العسكري على مشروع الهيكلة فوراً بحل مجلس الشعب، ولم تغفر الداخلية لفريد إسماعيل أنه وضع في مشروعه للهيكلة خطة الحد من صلاحياتها المطلقة، ونقل عدد من إدارتها إلى وزارات أخرى مثل العدل ومجلس الوزراء والتنمية والإدارة المحلية.

ومن يقرأ بيانات الداخلية عن وفاة الشهيد بإذنه تعالى يلاحظ نوعاً من التحقير لرجل عظيم، واقرأ وصفه بالسجين في بيان الوفاة: إن مستشفى المنيل الجامعي أخطرت قطاع مصلحة السجون، مساء اليوم، بوفاة السجين محمد فريد إسماعيل عبدالحليم خليل (58 عاماً) المنتمي للإخوان، والذي يخضع للعلاج بالمستشفى لمعاناته من تليف كبدي والتهاب فيروسي “C”، وأضاف البيان: إن السجين توفي إثر إصابته بغيبوبة كبدية، وأوضح أن فريد إسماعيل محكوم عليه بالسجن 7 سنوات في قضية أحداث شغب وتظاهر دائرة قسم شرطة ثان الزقازيق.

ولم يكتف الانقلاب بهذا البيان التحقيري لرجل ذي مكانة علمية واجتماعية وكان وكيلاً للجنة الدفاع الوطني والأمن بمجلس الشعب ولا يعرف الشعب والتظاهر، إذ حرضوا بعض أبواقهم لتدعي أن مشادات كلامية وقعت بين الإخوان وأهالي قرية الخلايلة في أثناء جنازته، وأن الأهالي هتفوا هتافات معادية لجماعة الإخوان، وهتفوا باسم قائد الانقلاب رافعين شارات النصر؟ كما حاول الأهالي منع بعض الإخوان من المشاركة في الجنازة! هل هذه أخلاق الفلاحين؟ وهل يمكن أن يحدث هذا في قرية يتكون معظمها إن لم يكن كلها من عائلة خليل (الخلايلة) عائلة الشهيد؟

لماذا الإصرار على إهانة الشهيد واللدد في الخصومة وإثارة الانقسام بين الناس حتى في لحظات تشييع الجنازة؟

لقد كان الشهيد بإجماع الأطياف السياسية مثالاً للخلق الكريم والسلوك القويم وصلابة المقاومة، فلم ينحنِ لسجَّان جبان، ولا منقلب خسيس كما وصفه بيان الإخوان المسلمين، حتى أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها صامداً مجاهداً.

يأبى ذكاء الإنكشارية الساطع إلا أن يجنّد على مدار الساعة مزيداً من رافضي الانقلاب من مختلف الانتماءات بسب الممارسات الانتقامية الوحشية الرخيصة التي لا تراعي أبسط حقوق الإنسان، خذ مثلاً ما يفعلونه مع الشاب محمد صلاح سلطان (26 عاماً) المعتقل البريء، الذي أخذته الانكشارية بديلاً عن أبيه الذي لم يجدوه في البيت حين ذهبوا لاعتقاله عقب أن ذبحوا الأبرياء في رابعة، قبضوا على الفتي وأصدقائه الأبرياء الذين كانوا في بيته، وعاقبوهم بإلقائهم في قعر مظلمة.

محمد صلاح سلطان درس الاقتصاد في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية، وكان يعمل في أمريكا التي يحمل جنسيتها، وعاد إلى مصر ليرعى أمه المصابة بمرض خبيث، فرأى نفسه في السجن المشدد بتهم لا علاقة له بها، اللهم إلا لأنه ابن العالم الجليل صلاح سلطان الذي اعتقل ووضع في زنزانة منفردة، ولا يستطيع مشاهدة ابنه أو اللقاء به أو رعايته بعد أن أضرب عن الطعام منذ أربعمائة يوم أو يزيد وتحول إلى هيكل عظمى، ويحوّم الموت حول جبينه كل لحظة؟ أي حنان يحمله الانقلاب للشعب المصري وعلمائه الأبرياء الفضلاء؟!

الغريب أن الولايات المتحدة التي يحمل محمد صلاح سلطان جنسيتها لم تتحرك لإنقاذ حياته، ولا أقول: لإخراجه من المعتقل، وهي التي تقيم الدنيا ولا تقعدها حين يعتقل من يحملون جنسيتها، هل لأن محمد صلاح سلطان مسلم؟ وهل صار المسلم لا قيمة له ولا مكان بين البشر؟ وهل لابد أن يخلع المسلم إسلامه لتهتم به أمريكا والغرب، وبالتبعية جمعيات حقوق الإنسان والحيوان؟

هل جريمة محمد أنه ابن صلاح سلطان الذي يشرف بلاده في الخارج بما يبذله من جهد علمي ودعوي ليمثل صورة مشرقة لمصر وعلمائها ودعاتها؟ لقد قابلت صلاح سلطان مرة واحدة في حياتي عام 1980م فيما أذكر، وكان يومها يؤدي فريضة الحج بعد تخرجه في دار العلوم وحصوله على الأولوية بين الناجحين، وكان النظام يمنع تعيينه معيداً بالكلية، وعرفت منه أنه رفع دعوى قضائية، علمت فيما بعد أنه كسبها وانتصر على أجهزة القمع الانكشاري وتم تعيينه معيداً، وواصل رحلته العلمية حتى وصل إلى ذروة الدرجات العلمية فأصبح أستاذاً، ولم يكتف بالدراسة في تخصصه، ولكنه يواصل في تخصصات أخرى!

لماذا يتم التعامل الانكشاري مع العلماء والفضلاء والنبلاء بهذا الانتقام الوحشي الرخيص؟

الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

 

Exit mobile version