نكبة فلسطين والنكبات العربية

السفير د. عبدالله الأشعل

 في الخامس عشر من مايو 1948م أعلن قيام دولة “إسرائيل”، بعد أن تمكنت العصابات الصهيونية من هزيمة الجيوش العربية التي حاربت هذه العصابات دون تنسيق ودون تصميم وإرادة واحدة، وفي سجل هذه الحرب التي ظُلمت فيها الجيوش العربية أن السؤال الذي توقفت الجيوش عنده سؤال سياسي؛ وهو إذا دحرت العصابات، فإلى من تسلم فلسطين؟ هل إلى مصر التي وصل جيشها إلى مشارف تل أبيب وكاد أن يمنع قيام دولة هذه العصابات، أم إلى الأسرة الهاشمية التي منحت إمارة شرق الأردن والعراق تعويضاً عن إخلاء الشريف حسين لمكة والمدينة لصالح عبدالعزيز بن سعود؟

وتراهن “إسرائيل” على أن الهزائم العربية المتكررة والنكبات المتتالية سوف ترغم العرب على التسليم بالأمر الواقع، وهو هيمنة المشروع الصهيوني على مقدرات الأمة، كما تراهن “إسرائيل” على اختراق الأوطان العربية وعلى التمكين الأمريكي لها في هذه الأوطان، مثلما تراهن على ضعف الذاكرة العربية وتحريف كتب التاريخ، ولذلك فإنني أدعو إلى أن نكرر لأبنائنا وأحفادنا، دون ملل أو كلل، مبادئ المأساة التي عرفت يومها بالنكبة، وأن يتعرف الأبناء والأحفاد على التفاصيل والقصص الحقيقية، لعلهم يُجبرون ما انكسر عند آبائهم وأجدادهم وهو ضياع البوصلة والارتداد إلى الجاهلية السياسية والمذهبية والاستتباع والثقة في عدو الأمة والتحالف معه.

والحق أن قيام “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية واستخدام الإرهاب والمذابح لتفريغ الأرض من سكانها، وعدم قدرة العرب في هذا المحيط الواسع على نجدتهم، كانت مقدمة لنكبات أكبر، صحيح أن النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر، وهو يدافع في مجلس الأمن عن حق العرب في فلسطين، قد وصف “إسرائيل” بالسرطان، ولكن هذا الوصف ذهب سدى، فلم يستمع إليه أحفاده، وكانت النكبة الأكبر الثانية هي القضاء على قوة مصر ودورها؛ لأسباب يجب أن تعرفها الأجيال القادمة في تقييم موضوعي بعيداً عن الشماعات السياسية والعنتريات البلهاء، ذلك أن سقوط مصر منذ عام 1967م كان إيذاناً لكل النكبات الأخرى التي حلت بالعالم العربي.

كان لابد من إسقاط المشروع القومي الذي رأى في وحدة الأمة العربية علاجاً لطرد السرطان، وتفادي التمزق والقُطرية الضيقة والشرود عن الجماعة، ولكن هذه الفكرة النبيلة لم تجد مقومات نجاحها، ولذلك فإن ضرب هذه الفكرة والتشكيك في العروبة وفي الإسلام ضرب لهوية الأمة في الصميم، وأدى إلى نجاح المشروع الصهيوني في تفتيت العالم العربي عبر نكبات متعددة ومتتابعة.

أما النكبة الثالثة فكانت عام 1979م؛ وهي ما يُعرف بمعاهدة السلام، وهي في الواقع إعلان عن استسلام الجسد العربي في قوته الرئيسة المصرية للمشروع الصهيوني، ومعنى ذلك أن مصر رفضت المشروع في صدق وقاومته في نفوس العرب جميعاً، ولكن الظروف التي أشرت إليها تركت هذا الموقف النبيل والصحيح مطعوناً فيه، ولذلك كان الموقف الثاني وهو التسليم للمشروع بل ومساعدته، رغم كل الشعارات البلهاء التي لا يزال يرددها حكام مصر ومعهم الحكام العرب الذين تحولوا، ربما دون أن يدروا، إلى مساندة هذا المشروع على تمزيق العالم العربي حتى تكون نكبة فلسطين هي مجرد فاتحة لعصر اختفاء العرب من التاريخ؛ لأن المنطقة التي استوعبت كل الفاتحين والمغامرين قد أصبحت إما لسكانها العرب وإما للصهاينة ومشروعهم، ولكن هؤلاء الأغراب على تراب هذه المنطقة، لابد أنهم زائلون، وهذه حقيقة لا شك فيها، وسوف يسجل التاريخ ذلك وفيه صفحات مزورة سطرها حكام بأمجاد وهمية، ويكفي أن مقاومة المشروع الصهيوني لم تعد، حتى من الناحية النظرية، جزءاً من هذه العنتريات، بل إن البطولة في عصر الانحطاط والتمسح بمن عادوا “إسرائيل” هي مساندة المشروع الصهيوني والانحناء أمام “إسرائيل”.

في عام 1979م لم تكن القضية مجرد معاهدة بين مصر و”إسرائيل”، ولكنها كانت فاتحة عصر جديد سلم فيه العرب وفي مقدمتهم مصر بالمشروع، ولذلك توالت بعد هذا التاريخ المبادرات العربية للتسوية وكلها ذر للرماد في العيون.

فقد بدأ بعد عام 1979م التفاعل العربي مع ثورة إيران الإسلامية، ولأنها تتحدى الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فقد رفعت واشنطن شعار الصراع الشيعي السُّني، وكأن إيران الشاه لم تكن شيعية، ثم ساهم الخليج تحت هذا العنوان في دفع صدام حسين لمحاربة إيران، ثم استدرك بغزو الكويت، فانقلب الخليج عليه، فكان ذلك مقدمة للمزيد من اشتعال الصراع الطائفي الذي مهد للاحتلال الأمريكي في العراق بمساندة عربية وخليجية وكانت تلك النكبة الرابعة.

أما النكبة الخامسة، فهي اتجاه الخليج إلى تمزيق سورية ومأساة اليمن، وكلها ترتكز على محور الصراع السعودي الإيراني الذي بدأ سياسياً ثم صار طائفياً، والهدف النهائي هو تمزيق الأوطان العربية واستقرار المشروع الصهيوني وإشعال الفتنة الطائفية بعد أن تخلى العرب عن نصرة الفلسطينيين أو حتى المحافظة على أوطانهم، فصار اللجوء والنزوح صفة لصيقة بمعظم العرب، وليست حكراً على الفلسطينيين، بعد أن صار العرب أغراباً في أوطانهم.

ورغم هذا الركام والصورة البائسة للعالم العربي، فإن الأجيال الجديدة منهم سوف تدرك الحقائق المطمورة، وسوف يتصدون بالعزم الواجب والوعي المطلوب للمحافظة على أوطانهم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والتنمية التي أنكرها عليهم أجدادهم، وعندئذ يصبح الجسد العربي قوياً ليلفظ الخبث، كما تلفظ النار شوائب الحديد. 

Exit mobile version