الانقلاب.. بين النائحة الثكلى والمستأجرة

 

محمد ثابت

 

 حتى ذلك الحين الذي حدثتْ فيه القصة الطريفة التي سأرويها بعد سطور كانت النائحتان إما ثكلى أو مستأجرة، والنائحة تلك التي تبكي وتصرخ وتولول لوفاة قريب أو عزيز لديها، فقد روي أن أحد الصالحين سأله ابنه: لماذا إذا وعظت بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم ينتبهوا؟ فأجابه العالم الفاضل، رحمه الله: “يا بني، لأن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة”؛ أي أن التي تبكى بحرقة الفقد واللوعة ومرارتهما ليست التي تبكي من أجل الحصول على دينار أو دينارين.

صارت لدينا نائحة جديدة بعد تقادم عهد الانقلاب العسكري في مصر، ولو ظاهرياً حتى حين قريب يأذن الله فيه بالنصر والفرج، تلك الطبقة من النائحين والنائحات، وأعتذر عن اللفظ فإنما هو جرياً على نسق القصة السابقة، وحزناً على ما يحدث في بلادنا، والحال لها شواهدها في كل دول “الربيع العربي”، وإن كانت تونس أحسنهم حالاً.

إن لدينا فريقاً “عريضاً” من حسنيّ النية يعملون فينا، تماماً بتمام كما يعمل الانقلابيون، بل لعل الأخيرين يسربون إليهم من الأخبار ما يثلج صدورهم فيبادرون بنشره، وبعد حين يتضح كذب ما نشروا فلا يعتذرون بل يبحث البعض عن خبر آخر مماثل لينشره، ولله في خلقه شؤون سبحانه، كنا في ميدان النهضة وكان “الشيخ” الصغير، مع الاحترام والتقدير للشيوخ المخلصين، يقول ثاني يوم الانقلاب: إن الجيش الثاني الميداني أعلن العصيان والثالث في الطريق، ولا أدري لماذا حدد الثاني؟ ربما لتنطلي الكلمات على المعتصمين لما لا يقول بأن الجيش الأول هو الذي يثور.. ربما، ولمّا قيل له آخر النهار: أنت تقول أخباراً كاذبة قال: وجدتكم “حزانى” فأردت أن أفرحكم!

ومن آسف وافق على كلماته جمهور عريض من المخدوعين، كذلك كنا في “رابعة” ثالث أيام الانقلاب تقال لنا أخبار من قبيل: إن “النيويورك تايمز” تشهد بفشل الانقلاب؛ فنهرول للاتصال بأبنائنا أمام التلفزيون ليكذبوا لنا حدوث شيء ذي بال.

فيما كان الانقلاب عن مثل هذه الأخبار وأحياناً الآراء في شغل.. من باب قول الشاعر:

وكل يدعي وصلاً بلــــــيلى         وليـــلى لا تقر له بذاك

إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ       تبين من بكى ممن تباكى

فأما من بكى فيذوب وجداً        وينطق بالهوى من قد تباكى

في الأيام الأولى للانقلاب امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع المؤيدة للشرفاء في مصر، بل شاشة “الجزيرة مباشر مصر”، و”الجزيرة” الأم بتحليلات نارية، وأخبار استدعائية، وكذلك بمقولات لمفكرين عالميين، الكل كأنه يعزف على ناي واحد، بداية من مستشار سابق للرئيس، وهو إنسان فاضل بالمناسبة ابتلي فأحسن الصبر على البلاء، ورغم عدم عميق العلاقة بيننا فإن كلماتي لا تقلل من تقديره وتقدير كل شريف، اللقطة الأولى المباشرة بالكلمات كانت: إن الرئيس عائد كما عاد “شافيز” بعد 48 ساعة، فلما لم يعد انتشرت “أبشروا”، وشيئاً فشيئاً صارت اللقطات: “إن الانقلاب يترنح”، والنصر قريب، وهو قريب بإذن الله، ولكن الملايين تمت تعبئتها، وتأهيلها نفسياً، عودة الشرعية في مصر بين عشية وضحاها، أو بين ساعة وأخرى، ومن آسف وقعت منصة رابعة العدوية في هذا الأمر، وتعددت ترجمته على فم كل متحدث.

وكان من هؤلاء إعلامي مشهور بحب الشهرة، والتقرب لكل نظام مسيطر، وكان يحلو له أن يتحدث عن البشرى وقرب النصر بعيد الفجر في اعتصام رابعة، ولأنه كان يحب الإطالة فقد أنس القائمون إلى حديثه في ذلك الوقت، فأسهب في الحديث عن البشريات والرؤيا والحلم الخاص بمن يراهم صالحين، فلما استقر الانقلاب قليلاً رأيته يسير بالقرب من مقر عمله متنكراً لمن كان معه في الميدان، إنه يمثل صورة من صور التعجل البشري غير المحبوب ولا المُقدر لتوابع الأمور في نفسه ولا غيره، وكم صدق بسطاء كلماته، وهو بالمناسبة من الحالات النادرة التي استطاعت الاستمرار في عملها حتى اليوم.

وزير سابق في حكومة د. قنديل سطَّر منذ أيام مقالاً في أحد المواقع البارزة على الشبكة العنكبوتية يقول فيه: إن الانقلاب “يتراجع” والثورة “تتقدم”، مستنداً إلى المستجدات الإقليمية والعالمية والموقف الاقتصادي المصري، وشواهد أخرى رآها كافية لخدمة وجهة نظره.

إن أحد دواعي عدم الدقة في الرؤية، ولا أقول الصدق، تراجع مفردات تلك الرؤية، والوزير نفسه بنفس البذلة التي خرج علينا بها بأعلى الخبر المصاحب للصورة الملخص للمقال، بنفس الهيئة خرج علينا في برنامج “بلا حدود” قبل 6 أكتوبر 2013م ليقول: إن هناك إستراتيجية لدحر الانقلاب في ذلك اليوم، ولم تبد إستراتيجية، وأنا كلي أسف أن أقول حتى اليوم.. لا يومها، وأشعلت كلماته أماني الثوار، وانتشرت مقولة “6 أكتوبر جيم أوفر”، فيما استمر “الجيم” الأول حتى اليوم، وارتقت يومها أرواح 60 من شهداء الشرعية شاكية إلى الله ظلم البشر.

إن السادة من كبار المسؤولين أيام الرئيس “مرسي” يحتاجون إلى كثير من “التدارك النفسي” لا للأخذ بآرائهم، لأنهم في أشد حالات الضرر، والنفس البشرية، العجيبة والغريبة، تتعجل العودة إلى وضع كانت عليه، وهي ترى أنه أرقى وضع حياتي لها، ولما يتبين لها مع الأيام أن العودة تلك مستحيلة تروح تتمنى، وتتقاصر الأمنيات مع الشهور والأيام لهو خير دليل على امتزاج العام بالخاص على نحو ما، ويبقى هنا أن الرئيس “محمد مرسي”، وإن كانت هناك ملحوظات على حكمه، كدأب البشر عموماً من فعل الصواب والخطأ، مع مراعاة طبيعة المرحلة التي جاء فيها، إلا أن ثباته يفوق طاقة وتحمل البشر، ولنقارنه بغيره!

أحد أبرز المواقع المناوئة للانقلاب، نشر مساء الثلاثاء الماضي بعنوان “فشل الانقلاب”، هكذا دفعة واحدة، أما السبب فتراجع الاحتياطي النقدي من 15,456 مليار دولار بنهاية فبراير الماضي إلى 15,290 بنهاية مارس الماضي، وهل يعني هذا فشل الانقلاب أم إنها إحدى الأماني، إن المجلس العسكري استلم مصر في نهاية عهد “مبارك” ولديها 35,8 مليار دولار، ليسلمها للرئيس “مرسي” ولديها 15,5 مليار فقط، وإن كان الأخير سلم الاحتياطي 16,4 مليار دولار لنزاهته وطهارة يده، والأرقام منشورة بجريدة “الأهرام” القومية في 12 يوليو 2013م، إلا أن هبوط الاحتياطي قرابة مليار، رغم كل المساعدات الخارجية لا يساوي شيئاً لا بالسلب ولا الإيجاب للانقلاب، قل ما شئت عن الفساد الخاص به.. ولكن، عفواً، لا تحدث الناس أنه ينهار لفقد ملايين من الاحتياطي، فقد فقَدَ مليارات تقارب العشرين منذ الثورة وحتى تسليم الحكم للرئيس “مرسي”، والعسكر لا تهمهم الأموال أو البشر بالمناسبة، الأول يعتبرونه مال “تكيتهم”، والمواطنون عبيد عندهم.

إن مثل هذه الأخبار تلقى نسبة قراءة عالية للحقيقة، لكنها ترسب أماني في النفس عالية، لكن عند اكتشاف عدم دقتها أو مصداقيتها، بالإضافة إلى الأماني المبنية عليها، ومحاولة التحليلات المترتبة على عشرات الأنباء، والمقالات المشابهة، وكلمات أو “بوستات” مواقع التواصل الاجتماعي، إن كل هذا في النهاية للأسف الشديد لا يخدم الثورة ولا الثوار، بل يصب في الخانة المضادة، ويتضافر مع كاذب الأخبار التي يبثها الانقلاب لتثبيط الحالة المعنوية للثوار، وهو ما انتبه الشباب الرائع المخلص إليه لما دشنوا “هاشتاج” “تاجر مخدرات” أو شيئاً من هذا القبيل لمن يروج أخباراً أو آراء تبشر بنصر زائف ثم تترك الناس لواقع مر بعد ذلك.

 

 

Exit mobile version