ماذا غيرت فينا الثورة؟!

عبدالرحيم درويشة

 

يبدو أن الثورة بمعنى التغيير لم تبلغ ذروتها، لقد أصابت كل ظواهر الحياة، وغيرت مسارها، لكنها لم تصنع من الثوار أناساً قادرين على خلق شيء جديد، صحيح أنها أعطتهم القدرة على رفض كل شيء، على نسف كل شيء، على التمرد على كل شيء، ولكن ماذا بعد؟!

ربما كانت تلك القوة التي اكتسبها الثوار نابعة من تغيير وقع في أنفسهم من الداخل، وهو تحطيم الخوف، لقد رحل الخوف عنهم إلى غير رجعة مع أول صرخة وأول رصاصة، لقد أورثت الثورة المجتمع شباباً وأطفالاً لا يعرفون الخوف، وذلك حسن ولكن إلى حين!

جميل جداً ألا يخاف الإنسان من الظلم والظالم أو من المعتدي أو المتسلط والمستبد ولكن، عندما يتعدى ذلك الشعور إلى كل شيء فإن المجتمع يفقد السيطرة على هؤلاء الشباب، بل ربما يفقد الشاب أيضاً السيطرة على نفسه!

الخروج من الخوف أمر لا بد منه، وهو شرط لمن يطلب النصر، لمن يريد الرفعة والمجد (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى {68}) (طه)، ولكن ذلك الشرط وحده لا يكفل لك أن يتحقق ذلك المجد والعلو، فلا بد أن تتعلم صنعه ثم تنجزه بيديك، ليس من السهل أبداً أن يتحول المجتمع من مستعبد خاضع للظلم والاستبداد، إلى صانع حضارة فقط بتخليه عن الخوف أو بالثورة على الظلم، فالمعول الذي يهدم هو غير المطرقة التي تشارك في البناء.

لقد جبلت نفوس المجتمعات في ظل الاستعباد والاستبداد على العجز والاتكال وانعدام الثقة والهروب من المسؤولية والتسليم للواقع مهما يكن مزرياً، وليست تلك أفكار تبناها الشعب أو تأثر بها، بل هي عادات تشربتها نفوس الناس وتجذرت فيها، وكل ذلك التخلف والانحطاط ما هو إلا تجسيد لتلك الأمراض على أرض الواقع، السؤال المهم هنا هو: كيف يضمن الشعب ألا يستمر ذلك التخلف وقد علم أن أسبابه ما زالت قائمة؟ هل استطاعت الثورة التي قلبت – كما يبدو لنا – الواقع رأساً على عقب أن تصل إلى جذور المشكلة وتحلها؟

يستشهد الكثير من الناس بألمانيا، وكيف أنها استطاعت أن تنهض من نكستها في فترة زمنية مذهلة، ولكنهم لا يدرون –أو يدرون ربما – أن ألمانيا والأصدق أن نقول الشعب الألماني، كانت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الغربية، وأن الشعب الألماني كان ولا يزال من أهم أعمدة الحضارة الغربية المسيطرة, وأنه شعب منتصر حضارياً حتى لو هُزم عسكرياً، ولا يهزم شعب تكمن فيه عوامل الحضارة والانتصار من ثقة ومسؤولية وغيره، ذلك مثال، والأمثلة كثيرة على أن النصر لا يكمن في الجبهة في خطوط التماس مع العدو فقط، وإنما في فهمنا لطبيعة الصراع وأدواته، فالشعب المهزوم لا يستطيع استثمار نصره العسكري حتى لو بذل له الغالي والنفيس.

لقد رأينا في الشهور الأولى من الثورة بوادر ذلك التغيير، رأيناها في تفاصيل ربما لم ينقلها الإعلام، وأذكر هنا هؤلاء الشباب الذين عرضوا تسليم أنفسهم للقتلة، وهم يعلمون المصير، مقابل ألا يتعرض الجيش لأهل المدينة، ولم يكن دافعهم في ذلك الوقت سوى تحملهم للمسؤولية التي تحملوها راضين مسرورين، حدث ذلك وغيره الكثير ولكن تأزم الوضع فيما بعد لأسباب كثيرة، حال دون ذلك، فعادت تلك الأمراض لتتجلى في الثورة كما كانت قبلها تماماً، لقد ظهرت في التواكل عندما مددنا أيدينا إلى الخارج نستجدي النصر، وظهرت في انعدام الثقة عندما رأينا الشباب وهم يتلقفون الأفكار والمشاريع المستوردة ويغلبونها على الثورة التي أبدعوها هم، كل ذلك وغيره الكثير، يشير إلى أن هناك بعداً آخر لم تصل إليه الثورة بعد، وهو في الحقيقة بيت القصيد ومفصل الحل.

يبدو أننا بحاجة إلى أن نفتش في أنفسنا عن بقايا ذلك العهد القديم البائس، لا بد أن ننفض عنا أسباب الهزيمة، يجب أن تبلغ الثورة منا مبلغاً تكون قادرة معه على أن تغيير الثائر وليس فقط النظام، يجب أن تزرع في نفوسنا الأمل والقدرة والثقة والإصرار والمسؤولية والاعتماد على الذات، ما زال ذلك العامل الغريب الذي يدعوه مالك بن نبي “القابلية للاستعمار” مترسخاً في نفوسنا، وما دامت القابلية للاستعباد متأصلة فينا فلن ننال الحرية، وما دامت القابلية للاستبداد موجودة بين أضلعنا فلن نحظى بالعدل.

الحل الذي نبحث عنه في كل مكان ولا نجده موجود فينا، ولا أحد غيرنا قادر على تحقيقه، يكفينا فقط أن ندركه ثم نقرر!

Exit mobile version