الحكمة الخالدة

ترى، لماذا هذا الطريق الطويل للوصول إلى الجنة التي كان الإنسان يسكنها، وإذا به يعود إليها بعد هذا المشوار المرهق أو لا يعود؟ لقد اقتضت الحكمة الإلهية الخالدة أن يهبط آدم عليه السلام، وزوجه، ويرجع إليها هو ومن يستحقها من ذريتهما، ولكن بعد أن تتحقق 6 أمور:

1- أن يعرف من يدخل الجنة قيمتها جيداً، وذلك بعد أن يرى الكبد وضنك العيش والمعاناة في الحياة الأرضية، وهو ما لم يره آدم في الجنة، ولهذا تساهل في أول اختبار (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً {115}) (طه)، واستمع بإنصات إلى وسوسة (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى {120}) (طه)، مع أنه كان مقيماً خالداً في الجنة بوعد إلهي خالد؛ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى {118} وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى {119}) (طه)، فلا تمسك حر شمس؛ لأنه لا شمس فيها بل ظل ممدود، وهي بالمناسبة الجنة التي الحقيقية وليست حديقة أرضية.

 نعم كان لا بد من الخروج من جنة الخلد ليعرف الإنسان قيمتها، بل حتى الإنسان الذي يستحق دخول الجنة، لا بد له أن يعرف مكانه الذي كان سيجلس فيه في النار لو لم ينجح في الاختبارات المتلاحقة أثناء حياته الدنيا، لهذا سوف يمر جميع البشر فوق وديان الجحيم الملتهب، وذلك أثناء المرور فوق الصراط الذي لا ينجح في عبوره إلا من اجتاز اختبارات الدنيا بنجاح، قال تعالى عن رؤية جميع البشر للنار: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً {71}) (مريم)، ثم يقال لمن فاز بالجنة: انظر إلى حفرتك التي نجوت من الوقوع بها في سَقَر، كان هذا مكانك لو لم تنج في اختبارات الدنيا.

2- كيف يستحق هذا وذاك من بني البشر دخول الجنة، أو الخلود في النار بغير وجود اختبار يحقق “العدالة” لكل منهما فيما يلقاه من مصير جلل؟ نعم، كان لا بد من الاختبار، لهذا تعرض الفتن على القلوب البشرية الواحدة تلو الأخرى، ففي الحديث الشريف: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ” (متفق عليه).

إنها اختبارات متلاحقة طوال حياة الإنسان على هذه الأرض، وكل منها يناسب مرحلته العمرية وقدراته البشرية وبيئته، وبالطبع تكون إجابات أسئلة تلك الاختبارات غير مكشوفة، وتعتمد الإجابة على الدراسة والمذاكرة والثقة – الإيمان – بعدالة النظام التعليمي، وأن الأسئلة لم توضع عبثاً، وهي ليست بغرض اللعب، فإذا ظهرت النتائج واستقر أهل الجنة في مراتبهم، تساءلوا عن نتائج الاختبار لأشخاص آخرين يعرفونهم، مثلما يحدث في الدنيا بعد انتهاء الامتحانات، يتلهف كثير من الناس لمعرفة ماذا جرى لفلان وفلان من معارفهم، يقول الفائز في الجنة: (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ {51}‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ {52} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ {53} قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ {54} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ {55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ {56} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {57} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ {58} إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {59} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {60} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ {61}) (الصافات).

3- دور إبليس مكمل لهذه المهمة، الاختبار، وقد تورط في هذه المهمة المصيبة بسبب غطرسته وغروره الكاذب، وهي مصيبة لأنه يتحمل كفل ما يفعله كل من يطيعه من البشر، وقد اقتضت الحكمة الخالدة إمهاله ليقوم بذلك الدور الشقي الذي أوقع نفسه فيه بتكبره وكفره.

4- من صور متع الجنة أن يقارن أهلها النعيم الذي يعيشونه في الجنة بما كانوا يكابدونه في الدنيا، ولو لم تكن تلك الحياة الأولى لما استلذوا بنعيم الآخرة على هذا النحو، ليس في الطعام والملذات الحسية فقط، والتي يقارنونها بما كان لأهل الدنيا ما يشابهها في الأسماء، ولكن أيضاً في ذهاب الغم والاكتئاب (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ) (فاطر)، وإذا وجد أهل البلاء ما يستحقونه من جوائز متراكمة كالجبال تنتظرهم، نتيجة صبرهم فسيتمنون لو لم يكشف عنهم أي بلاء.

5- تتاح الفرصة في الدنيا كاملة للإنسان للاختيار (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً {3}) (الإنسان)، مع منحه إلهام الضمير للتمييز بين الخير والشر، وما نسميه بالفطرة التي فطر الله جل جلاله الناس عليها، وإمداده بالعلامات الدالة؛ (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {9}) (الحديد).

6- لقد وضعت الكواكب والبحار والجبال وكل ما على الأرض لهدف واحد هي تلك الاختبارات؛ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {7}) (الكهف)، فإذا انتهت فترة الاختبارات لجميع البشر فسيتم تغيير المشهد الكوني، يوم يطوي الله عز وجل السماء كطي السجل للكتب، نعم، هكذا ببساطة، كل ما على الأرض.

لقد قدم الإسلام التفسير الرائع لكينونة هذا الخلق ومآله النهائي، ولن تجد هذا الوضوح الكامل إلا في خاتم الرسالات السماوية. 

Exit mobile version