تحول الجيوش من صراع “إسرائيل” إلى صراع “الإرهاب”

 

السفير د. عبدالله الأشعل

الملاحظ هو تحول الجيوش العربية عن “إسرائيل” إلى محاربة الإرهاب، فما نصيب “إسرائيل” في هذا التحول الذي بدا وكأن الإرهاب أولى من مواجهة “إسرائيل”؟ تبحث هذه المقالة فرضية تفرغ الجيوش العربية للإرهاب كأولوية طارئة أم أن تجول الجيوش عن “إسرائيل” سابق علي ظهور الإرهاب أم أن الجيوش بحثت عن وظيفة جديدة بدلا من البطالة؟

هذه قضية تستحق البحث والتأمل العلمي لكي نختبر فيها فرضية أخرى؛ وهي أن “إسرائيل” تريد أن تشغل الجيوش العربية بغيرها، وهو في النهاية صراع داخل كل دولة عربية فلا تفكر مطلقاً في الصراع الذي صار مجرد نزاع “إسرائيلي” – فلسطيني، وهذا تحول خطير في التفكير السياسي والعسكري العربي المحدود بعد هزيمة الجيوش أمام “إسرائيل” أو بمعني أدق عجزها عام 1948م عن منع العصابات الصهيونية من الاستقرار في قلب فلسطين، ثم الفشل في مواجهة التوسع الصهيوني في الجسد العربي.

كانت كافة الجيوش العربية خاصة في الدول المحيطة بـ”إسرائيل” تستمد شرعيتها من أنها منذورة للخلاص من “إسرائيل”، أو على الأقل الدفاع عن الحياض العربية من اعتداءات “إسرائيل”، ولكن هذه الجيوش منيت بهزائم منكرة على يد “إسرائيل” لسبب واحد وهو عدم كفاءة نظمها السياسية التي عجزت عن أن توفر لهذه الجيوش المنعة السياسية والدبلوماسية والتحالفات اللازمة، والقدرة على تجريد “إسرائيل” من مصادر قوتها الخارجية، ولما يئست هذه الدول من مواجهة “السرطان” الذي زرع في الجسد العربي عام 1948م كما وصفها النقراشى باشا في مجلس الأمن عام 1948م، كما فشلت الجامعة العربية، اتجهت هذه الدول بقيادة مصر إلى التسليم للمشروع الصهيوني وإعلان الاستسلام أمامه والإقرار بانتصاره على مناعة الجسد العربي؛ لأن هذا الجسد تدير أموره طبقة هشة ونظم بالية تجد شرعيتها في التماهي مع المشروع الذي تدعمه واشنطن سراً وعلانية، حياتها في الارتماء وليس مقاومته، والنتيجة أن هذا المشروع بحث عن وظيفة جديدة للجيوش العربية بعد أن تأكد أن التصدي لهذا المشروع لم يعد عقيدة هذه الجيوش، وهذه الوظيفة الجديدة هي الإرهاب الذي يجد الإرهابيين وضحاياه ومسارح الإرهاب في صلب العالم العربي وبين شعوبه، واستغل المشروع لتحقيق هذا التحول التاريخي عجزها عن توافق هذه النظم مع شعوبها، وهو السبب المشترك لجميع مسارح الإرهاب.

فالإرهابي مسلم، والضحية مسلم، والبلد مسلم والذريعة هو الدفاع عن الدين، وتلك خلطة سحرية لم تكن في خيال المبدعين من قصاصي الخيال العلمي، صحيح أن صرف الانتباه عن المشروع الصهيوني كان هاجس واشنطن، حيث قررت بعد التقارب المصري الصهيوني عام 1979م أن “إسرائيل” لم تعد عدواً، وأن العدو هو الاتحاد السوفييتي والمادية الإلحادية الشيوعية، وقد نجحت واشنطن في توجيه العالم العربي إلى تصفية الإمبراطورية السوفييتية والتورط في صراعات بينية، وعندما اعتمد الغرب الإسلام عدواً بديلاً عن سقوط الشيوعية لم نكن نتخيل أن “الإسلاموفوبيا” في بلادنا أشد نكيراً مما هو في الغرب وضد الأقليات الإسلامية التي تعيش هناك، بل أن صورة الانقسام الإسلامي الطائفي والسياسي الحادث الآن قد فاجأ الجميع على الأقل بهذا الحجم الذي صرف المال والجهد وأسال الدماء في غير قضية، بينما تنعم “إسرائيل” برعاية مشروعها في تدمير العالم العربي بأيدي أبنائه، وما كان للصهيونية أن تصل إلى هذا الحد لولا أنها توغلت في الجسد العربي، ووظفت بعض قياداته لخدمة المشروع السرطاني، فنشأت قبيلة متزايدة العدد هي الصهاينة العرب، وهم أكثر نجاحاً في ضرب الأوطان العربية من الصهاينة أنفسهم، لكنهم لا يزالون مكروهين من الشارع العربي.

ويبدو أن الاضطراب العربي وغياب البوصلة قد بلغ مبلغاً خطيراً، عندما تتردد أفكار مثل تشكيل قوة عربية مشتركة، فكيف ولماذا وهل غاب عنا تاريخ النكبة حين تحمل المصريون وحدهم العبء في مواجهة العصابات الصهيونية، فكانت تدخلات مجلس الأمن بهدنتين والصراع بين الفلسطينيين والملك عبدالله الهاشمى على فلسطين لمن بعد فوز العرب على اليهود؟! قد دفع مصر إلى العزوف عن هذا الصراع السياسي الذي كان سبباً في الأداء الهزيل، بل وتسليم مدن في فلسطين، جزاءً للعرب على عدم حسم هذه المسألة، فهل هذه القوة التي ليس لها نصيب من المنطق إن تشكلت جدلاً لها وظيفة محددة؟ إذا كانت ستتدخل في ليبيا فليس هناك تأييد عربي أو دولي بالتدخل العسكري، أم ستتدخل لإسقاط النظام في سورية وسط تعقيدات سياسية وعسكرية هائلة، أم ستضرب الإرهاب في سورية والعراق الذي لا تتوافر إرادة دولية لضربه، أم في اليمن ضد الحوثيين أم ضد إيران؟ وهو أمر لا يحتاج إلى تعليق لفرط عبقريته إن كان مطروحاً، وممن أن تتكون القوة قطعاً قوامها الجيش المصري، وتكون القوة غطاءً، وهذه جزء من المؤامرة على هذا الجيش لا أقبلها كمواطن على الأقل، وأين مقر القوة وقيادتها وميزانيتها؟ ومن يتخذ قرار استخدامها؟ وما موقف “إسرائيل” منها خاصة إذا استهدفت “حماس” أيضاً؟ وهل تختلف عن القوة التي اقترحتها الجامعة العربية للتدخل في غزة لتحريرها من الانقلاب كما تسميه وإعادة غزة إلى أحضان أبي مازن والشرعية، وقيل: إن هدفها عام 2009م هو حماية الفلسطينيين من العدوان “الإسرائيلي”!

ومادامت الجيوش العربية قد انشغلت في الصراعات الداخلية وآخرها الإرهاب، فهذا نجاح باهر للمشروع الصهيوني حتى يقضي الإرهاب على هذه الجيوش، فلا جدال عندي في أن لـ”إسرائيل” يداً طالت أم قصرت في هذا الإرهاب يجب تبيُّنه من جانب عقلاء الأمة، أيهما أكثر كلفة؛ ردع المشروع أم التخبط في مواجهة عدو شارك العدو في صناعته؟ واكتشاف الأمر لا يحتاج إلا إلى أمانة وعزيمة الكشف وليس التماهي مع المشروع.

لقد حذرنا مئات المرات أن “إسرائيل” انتقلت من تصدي العرب جميعاً لها إلى التسلل تحت وهْم السلام لتدمير اللحمة العربية، فنفذت إلى الجسد العربي، فما تتوقع بين الجسد والسرطان؟ لقد أدرك النقراشي باشا الذي رأس الوفد المصري في الأمم المتحدة هذه الحقيقة عام 1948م وهو الذي شهد إرسال الجيش المصري إلى فلسطين، ولو قدر للجيش المصري أن يكمل مهمته يوم ضرب تل أبيب بالطائرات كما تحولت سفنه المدنية إلى سفن حربية لما كانت العصابات الصهيونية قد استقرت في قلب مصر والعرب، ولولا الصراعات العربية الرخيصة، وقبول الهدنتين من مجلس الأمن لكانت مهمة الجيش المصري قد انتهت رغم احتلال الإنجليز من هذا السرطان، ولابد أن نسجل في هذا المقال أن الجيش المصري كان دائماً ضحية القيادات السياسية والعسكرية، وعندما أتيح له الفرصة أدى دوراً مبهراً عام 1973م؛ فسجل “شارون” في مذكراته أن “إسرائيل” قررت الخلاص بالسياسة من الجيش الذي فشلت في هزيمته بالحرب (كتابنا “الفكر الصهيوني في مذكرات أينشتاين وشارون”، القاهرة 2003م)، وقال “شارون”: إن مصر إذا قامت، وإذا أتيح للجيش أن يحارب فعلاً فهي نهاية “إسرائيل” مهما كان الدعم الأمريكي الكامل. (انظر في تفصيل ذلك أيضاً كتابنا “العلاقات المصرية الإسرائيلية في ضوء معاهدة السلام”، القاهرة 2010م).

إن الجيوش المحيطة بفلسطين تقع في صلب المؤامرة فتسببت المغامرات في تدمير الجيش العراقي وإهدار قدراته سواء في الحرب العراقية الإيرانية، أو الغزو العراقي للكويت عام 1990م، ثم الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، ثم تم حل الجيش العراقي وإشعال الطائفية، بدور صهيوني مبين، كذلك الجيش السوري الذي ورطوه في موقف معقد وحالوا بين الجيشين السوري والمصري حتى لا تقع “إسرائيل” مرة أخرى بين شقي الرحى.

 

Exit mobile version