أزمة الإعلام.. وإعلام الأزمة

محمد ثابت

لما شرع الله فريضة الحج أمر سيدنا إبراهيم، عليه السلام، أن يؤذن في الناس لكي يأتوا إلى “مكة”، تعجب حينها أبو الأنبياء عجباً شديداً كما جاء في الأثر، وسأل: كيف يصل صوتي البشري الضعيف أرجاء المعمورة.. وهو أضعف من أن يفي أو يقوم بهذا؟

قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27}) (الحج).

فقال له الله، عز وجل: “نادِ وعلينا البلاغ”.

وأوحى الله للجبال أن تواضعي؛ ليصل صوت خليله إلى البشر في أنحاء المعمورة، بل إلى الأجنة في الأرحام، ومن هم في علم الغيب في الأصلاب بل والحجر والشجر والمدر، ومن كُتِبَ الحج عليهم إلى يوم القيامة كما قال سيدنا ابن عباس ونقل عنه ابن كثير في تفسيره.

أزعم أن الله كان يعلّم نبيه إبراهيم، عليه السلام، أول درس في الإعلام لينقله إلى البشرية، وبخاصة أنصار الحق أتباع الأنبياء إلى يوم الدين، وإلا، فكما هو معلوم، كان الله قادراً على الإبلاغ عبر ملائكته أو كيفما يشاء تعالى إذا أراد.

(1)

إحدى أكبر أزمات التيار الإسلامي، ولا أقول: بعض ولا أبالغ، الإعلام، إنهم يرونه من نافلة القول إلى اليوم، وأمراً غير أساسي، وإن قيل: إنهم يحتفون به، فالاحتفاء غالباً، وإلا من رحم ربي تعالى، ظاهرياً أما في مضمونه، فمن أسف شديد تجد عدم الاهتمام على نحو مريع متمثل في “الاستقواء” بـ”غير المهنيين”، أو المدركين لطبيعة الأزمة الحالية، أو “المتواكلين على الله تعالى”، وإنه ناصرهم وناصر قضيتهم، لأنهم على الحق “المستبين” و”الصراط المستقيم”، وهم للحقيقة كذلك، ولكن من قال: إن كونك على الحق بمفرده يساوي نجاحك في صناعة “ثقيلة” مثل الإعلام، اللهم ارحم رحمة واسعة الشيخ محمد الغزالي، فقد كان أمة في التنوير ومحاولة تحرير الفهم وحده، وكم عانى وقاسى مع تيار الحق، ومن أجمل ما قرأت عنه:

“لو أن مسلماً صالحاً حافظاً لكتاب ربه سائراً على دربه، وكافراً بالله بل صهيونياً قاتلاً مجرماً نزلا إلى البحر والأول لا يعرف شيئاً عن “فن العوم” والثاني حاذق به، لنجا الصهيوني وغرق المسلم”.

إن لدينا إعلاماً يسمى مسانداً للشرعية في وجهه التلفزيوني “مغرقاً في المباشرة”، يظن أنه لكي يكسب الناس إلى صفه فإن عليه أن يستدعي مجسماً لـ”دورة مياه” – أعزكم الله – إلى الأستديو ساباً عبره “عبدالفتاح السيسي”، أو لكي يقول: إن الثورة أخذت منحى جديداً يقرأ البيان الصادر من إحدى الحركات المنسوبة للثورية على أنه صادر عنه، عن المحطة التي تذيع البيان، وكأنها تصنع عبر آلاف الكيلومترات “الحراك الثوري” لا تنقله، بل إن لدينا “فاضلاً بالفعل بمفهوم الرجال” لكنه يقوم عبر العمل الإعلامي برسم مخطط للثوار بأماكن مطلوب منهم مهاجمتها، وكأنه محلل ميداني إستراتيجي، أو كأنه الوجه الآخر للإعلام الانقلابي البشع،  وإن كان النجاح ليكلل مسيرة “البعض” وتطفو مثل هذه الأخطاء على السطح مهددة “الكل” بالتوقف توقفاً سياسياً،  لأسباب تعني الدولة المستضيفة لهذه القنوات، وجهود الانقلابيين لوقفها، ومساعدة بعضها لعدوها “عليها”.

إن انقلاب “جمال عبدالناصر” على الملك “فاروق” ثم الرئيس “محمد نجيب”، وأخيراً الديمقراطية لم يكن ليتم لولا إعلام “قذر” سفه قلوب وعقول الناس من أسف شديد، وجعلهم يسبون الديمقراطية بدلاً من المناداة بها، وينادون بالقتل،  والدم لجزء منهم، حتى تم بعد قليل قتل الدولة المصرية كلها في صورة هزيمة 1967م، وأكمل الإعلام ممارسة دوره، رغم قول “عبدالناصر” نفسه: “هي الناس بتطالب ببقائنا ليه؟ إحنا نستحق الدبح”.

يروى أنهم أذاعوا أغنية “وطني أحببتك يا وطني”، رائعة مرسي جميل عزيز بالعربية الفصحى عقب خطاب التنحي، وهي من غناء الراحل محمد فوزي، وما زال الإعلام بالناس يحدثهم عن “النكسة” ومعناها ومبناها، حتى ثبّت دعائم حكم “جمال عبدالناصر” من جديد، وقد أضاع أجزاء عزيزة من الأمة، منها جزء من القدس وكامل سيناء والجولان، وكانت له سابقة في الهزيمة لم يسبق لها مثيل في الحروب من قبل،  وربما من بعد.

(2)

كان من الأسئلة المذهلة عقب عزل الرئيس “محمد مرسي”:  كيف يمكن لـ”السيسي” أن يحكم هذا الشعب؟ إذا ما كان من يلعبون “حجلة” في الشارع يرتضون قواعد اللعب بينهم، فلا يستطيع أحدهم “الانقلاب” على من بيده مقاليد اللعبة، ومع التسليم بدور المال الخليجي، والتآمر الدولي، وحسن النية من جانب الشرفاء، فقد كان للإعلام دور قيادي غير محدود في استمرار الانقلاب، وكلما دافعنا عن الصواب، وبيّنا وجه الحقيقة في الأمر، وقارب الوصول إلى “الكتلة الحرجة” التي تعنيننا لكسر هذا الانقلاب؛ خرج علينا قائده بمكيدة إعلامية أعادتنا لشبيه مكاننا الأول، فيما إعلامنا في أفضل حالته يعاني من نقص التمويل، والانفصام، أو هكذا تبدو الأمور!

انظر إلى المدعو “عبدالفتاح” في ختام ما يسمى المؤتمر الاقتصادي، هل رأيت مثل هذه “القذارة” من قبل، وتحيا مصر على طريقة “محمد سعد في فيلم اللمبي”، والكلام “البشع” عن مصر وكأن البلد صارت شحاذة عمياء تستحق الفتات ممن يستحق وممن لا يستحق.

لكن في المقابل، فإن كل شيء في المؤتمر يبرق،  والكاميرات تنقل من زوايا جهنمية، والشباب “السيليكون” يحيطون بالأفاق من كل جانب، في حين فتيات مصر الحقيقيات في السجون يعانين المهانة إن لم يكن أكثر، ومنهن من تم انتهاك عرضها، بل حملتْ بالإكراه من أشباه بشر، وفيما الرجال يموتون من القهر، والشباب يطحن عظمهم، ومثل ترهات إعلام الانقلاب تنطلي على الرجل البسيط.

(3)

أي أزمة هذه؟ وأي دروس نتأخر في الاستفادة منها إن لم نجعل إعلامنا منسقاً نستفيد من خبرات بعضنا بعضاً فيه،  ويدعم بعضناً بعضاً بما نستطيع، ولا نداور ونكابر كدأب الانقلابيين، ونستغني عن الاستعانة بأبناء “الشيوخ” مع كامل التقدير لهم، إن لم يكونوا يصلحون للعمل المهني، ونحتفظ بـ”مشعل الوعي براقاً”؟ ولتكن مخاطباتنا لرجل الشارع العادي،  كاشفة للحقيقة لكن بمصداقية، لا نزاحم الانقلابيين في الإتيان بما لا ينبغي من أجل كسب تعاطفه.

إن الطريق الواضح إلى كسر الانقلاب يمر من بوابة الإعلام التلفزيوني الهادف المراعي للأجواء من حوله، المتخلص من “محسوبيات” المجاملات، اللهم بلغت، اللهم فاشهد.

 

 

Exit mobile version