الرهانات المصرية الخاطئة في ليبيا

جمال سلطان

الموقف الرسمي المصري الحالي من الشأن الليبي شديد الاضطراب، ويعمل وفق منطق اليوميات، حساب يوم بيومه، دون نظر إلى المستقبل واحتمالاته والاستعداد للتعايش معه، ما زال الموقف الرسمي المصري حتى الآن ينظر إلى الأزمة في ليبيا على أنها أزمة مواجهة بين الجيش “الشرعي” – جيش “حفتر” – وعناصر إرهابية، بينما العالم كله ينظر إلى ليبيا باعتبار أنها أزمة انقسام سلطة وسلاح وشرعية، فهناك حكومتان وبرلمانان وجيشان، كلاهما تدعي الشرعية، وكلاهما متهمة أيضاً بعدم الشرعية، الأولى في مدينة طبرق في أقصى الشرق، وهي لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من التراب الليبي، ولا تمتلك أدوات عسكرية حقيقية، فكان أن لجأت إلى جنرال سابق في جيش “القذافي” (خليفة حفتر) لتعتمد عليه وتضفي عليه صفة الجيش الشرعي، رغم أن نفس الحكومة والبرلمان الذي يرعاها هي التي وصفته قبل ذلك بأنه غير شرعي، وأنه يقود مليشيات غير قانونية، لكن للضرورة أحكاماً، وأصبحت تلك الحكومة تحت سيطرة حقيقية من الجنرال المتمرد “خليفة حفتر”، ولا تمتلك حتى أن تتحرك في طبرق نفسها إلا بإذنه، وقد هددها قبل أسابيع بقصف برلمانها إذا لم يتم اعترافها بتنصيبه قائداً عاماً للجيش؛ فكان أن انصاعت صاغرة له.

وقد فعل “حفتر” ذلك استباقاً لمؤتمر المصالحة الوطنية الذي ترعاه الأمم المتحدة؛ لكي يفرض أمراً واقعاً على نتائجه، ولذلك تراه يصعد الاشتباكات والعنف كلما تقدم الحوار خطوة.

حكومة طبرق تأسست باعتبار أنها تمثل البرلمان المنتخب، غير أن البرلمان فقد شرعيته بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا في ليبيا ببطلان طريقة انتخابه، وأصبح هو والعدم سواء، ولكن المجتمع الدولي اضطر للإبقاء على التعامل مع حكومة طبرق بشكل جزئي واستثنائي حتى لا تتحول ليبيا إلى دولة فاشلة وبدون حكومة؛ مما يسمح بتمدد الإرهاب وانتشار الفوضى وتشظي البلاد، ولكن المجتمع الدولي يتعامل – في الواقع – مع حكومتين وبرلمانين، ويقوم المسؤولون الدوليون بالاجتماع الدوري مع الحكومة في طبرق والحكومة في طرابلس.

الحكومة الأخرى هي حكومة طرابلس والتي تتأسس على شرعية المؤتمر الوطني “المنتخب”، ولكن ولايته انتهت، ولكنه وجد مسوغاً قانونياً وسياسياً لعودته للانعقاد لحين إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وحكومة طرابلس تمتلك جيشاً ورئاسة أركان وقوات تسيطر على معظم التراب الليبي، وهي الحكومة العملية الحقيقية في ليبيا، وتتعامل معها معظم الدول الأخرى باعتبارها الحكومة الشرعية والواقعية، بما في ذلك جيران ليبيا مثل تونس والجزائر.

الآن، الأمم المتحدة ترعى حواراً وطنياً ليبياً، ينعقد في المغرب، يقترب من الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، من أعضاء بحكومة طبرق وآخرين بحكومة طرابلس، وهناك مباحثات في اعتماد مجلس تشريعي مصغر موحد أيضاً، والاتفاق على رئيس للحكومة الجديدة يكون محايداً، وبطبيعة الحال سيكون هناك الاتفاق على عدد من الاستحقاقات المفصلية، مثل توحيد الجيش واختيار قائد عام جديد للجيش الليبي، ودمج الكتائب المسلحة في الجيش الجديد، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وترى الأمم المتحدة ومعها العواصم الكبرى أن هذا هو الخيار الوحيد لوقف الفوضى والعنف في ليبيا، وللسيطرة على الخلايا الإرهابية التي بدأت تنشط هناك.

مصر حتى الآن تدير ظهرها لهذه الترتيبات، وترفض – عملياً – مسار المصالحة الوطنية، ولما ضاقت عليها الأمور ورأت الإجماع الدولي على المسار الجديد أعلنت القبول به شكلياً، لكنها حاولت أن تقدم تفسيراً خاصاً بالحل السياسي في ليبيا، ملخصه أن ندعم “خليفة حفتر” وجيش طبرق باعتباره الجيش الشرعي الوحيد ونمده بالسلاح والعتاد والتدريب ونلاحق قوات جيش طرابلس وحكومتها باعتبارهم إرهابيين!

هذا – بطبيعة الحال – كلام مثير للشفقة، ومن العبث أن نضعه في أي سياق يتحدث عن حل سياسي، كما أنه لا يعني سوى أن مصر تحاول عرقلة المسار السياسي التصالحي في ليبيا، وأنها – لسبب لا نفهمه – تضع رهانها كله في سلة “خليفة حفتر”.

لا يوجد أي منطق من عقل سياسي أو مصلحة وطنية تستدعي كل هذا التشنج والعناد في الموقف من مسار التسوية في ليبيا، فهو يسمح بالسيطرة على الإرهاب، كما يسمح بفتح المجال أمام إعادة إعمار ليبيا؛ بما يعني فتح المجال أمام مئات الآلاف من فرص العمل للمصريين الأكثر قبولاً لدى الشعب الليبي، كما يحمي مصالح مئات الآلاف الآخرين من المصريين العاملين في ليبيا والمعرضين للاستباحة بفعل التدخل المصري لصالح “حفتر”، كما يسمح بمعاملات خاصة في مجال الطاقة تخدم مصر في ظروفها القاسية الحالية، كما يسمح بالسيطرة على الحدود ومنع تشكل خلايا إرهابية تهدد الأمن القومي المصري، وكل ذلك سيكون برعاية أممية ورقابة دولي صارمة.. فلماذا ترفض كل ذلك؟ ولماذا تعاديه. ما هو المنطق؟ هل لمجرد الكراهية في أن يكون هناك وزراء إسلاميون أو إخوان في الحكومة الجديدة؟ هل لكي لا يقال: إن “الربيع العربي” نجح وانتصر في ليبيا؟ هل مصر يقودها الصراع الأيديولوجي أم تبحث عن مصالحها القومية كدولة ووطن بعيداً عن التجاذبات الأيديولوجية؟ هل يتصور صانع القرار المصري الآن أنه يمكنه أن يشكل تحالفاً مع دولة بحجم الإمارات يتحدى به المسار الدولي كله في ليبيا؟ ومن يتحمل تكلفة معركة الاستنزاف السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري الاعتباطية هذه؟ ما هذا العبث؟!

 

Exit mobile version