ثبات الثائر والثورة

عبدالرحمن درويش

عمر الثورة السورية اليوم أربع سنوات، ولكنه ليس عمر كل الثوار في سورية, فكل من شارك في الثورة له عمره الثوري، وهو اليوم الذي بدأ فيه ثورته ونزع عنه خوفه، اليوم الذي ترك فيه الخمول والركود واختار الحركة والتغيير، واختار مع الحركة جهتها ووجهتها، ولم يكن له بد من أن يختار الجهة والوجهة، وإلا كانت حركته فوضى وعبثاً.

لم تكن صرخة الحرية التي قطعت علينا نومنا الطويل صرخة عابرة أو ارتجالية، ولكنها كانت الجواب الطبيعي لتراكم الأسئلة المرهقة في أذهان الشعوب، ولقد تفجرت أجوبتها من صميم أسئلتها الملحة، وكانت الصرخة واعية ومدركة، إدراكاً فطرياً لا يكترث بالتحليل والمنطق، ولا يعبأ بالخسارة والمكاسب، كل همه أن يبلغ مراده وينجز ما يتوجب عليه إنجازه، ولقد كانت علاوة على قوتها وصدقها جميلة رائعة.

واليوم وبعد طريق مرهق طافح بالدماء، وخسائر لم ندرك منها سوى ظاهرها، يتوجب على كل ثائر أن ينظر خلفه، هل ما زالت الثورة تتخذ الطريق ذاته؟! وهل ما زالت القافلة تسير إلى الوجهة الأولى التي اختارها الثوار عندما أعلنوا الثورة؟! فالانحراف هنا إن وجد، يكون خفياً وقد لا يدرك، وقد يوجد حتى في الثائرين أنفسهم.

عندما تصبح الثورة هي الحالة السائدة في المجتمع، تصبح فكرة كغيرها من الأفكار، يستعصي نقدها أو حتى ربما الحديث عنها، فتكون حجة لتكبيل الأفكار الأخرى، فتنقض ذاتها وربما تموت أو ترتد على نفسها، وذلك شكل من أشكال الثورة المضادة، فلا يوجد ثورة عصية على الأخطاء والعثرات، ودور الثائر هنا أن يقوّم ذلك، ويستحيل ذلك في أجواء تمنع النقد وتقدس الثورة لذاتها لا لأهدافها؛ لأن الثورة كما يشبهها مالك بن نبي كالسفينة لا يكفي أن توجهها في بداية السير نحو وجهتها، ولكن يتوجب على الربان أن يتفقد سيرها على طول الطريق ويصوبه إذا لزم الأمر، وذلك حال الثائر، فلا ينبغي له أن يغفل مهما امتدت ثورته عن الأساس الذي قامت عليه، والوجهة التي حشد الناس عليها، فتلك هي البوصلة التي يرجع إليها كلما شعر بالضياع أو الحيرة، أو كلما أراد أحد مغافلته وحرف مسار الثورة لخدمة مشروعه أو قضاياه الخاصة.

ربما يكون رؤية انحراف الثورة عن مسارها أسهل إلى حد ما من رؤية انحراف الثائر نفسه أو نكوصه عن طريق الثورة، فذلك أشد خفاء وتوارياً، فمن ثار للحرية لا يسعه أن يفرض العبودية على غيره تحت مسمى الثورة أو غيرها، ومن ثائر للعدل لا يجعل من نظرته للعدل هي العدل ذاته، ويطلب من غيره متابعته، فالحرية وإن كانت ضرورة لازمة لكل من يبحث عن العدل والحق، فهي في ذات الوقت مسؤولية قد ينوء البعض بحملها، ربما جهلاً وربما عادةً كرستها السنين، جهلاً منه بنفسه ودروه، وعادة غلبت عليه حين اعتاد أن يؤمر فيطيع ولا يتكلف هم التفكير والبحث، فالمرء حين يتخذ قراره بالثورة فإنما يثور على نفسه أولاً، وليس ذلك بالشيء الهين أبداً، فعندما تتقدم الثورة ولا يواكب الثائر ذلك التقدم، فذلك نقض للثورة وردة عليها، كركون الثائر إلى صورة من صور الثورة، وخاصة حين تطول – كحال الثورة السورية اليوم – فيألفه الثائر ويستقر عليه، ويكون ذلك قاتلاً للثورة، فأنصاف الثورات لا تعيش، وهي حيز خصب لسارقي كفاح الشعوب وتضحياتها.

إذا أردنا أن تحقق الثورة القائمة في سورية أهدافها، فلا ينبغي أن نمل ونردد أنها ثورة تمثل الشعب بكل فئاته، وأهدافها هي الأهداف التي هتف بها الشعب في مطلع ثورته، لا الدعوات التي تتردد يميناً وشمالاً، فنحفظ مسار الثورة على أسسها التي قامت عليها أول الأمر، فذلك هو الضمان الوحيد لكي نحفظ التضحيات، ونُبقي على الروح الثائرة فينا، وننجو بأنفسنا وثورتنا من اللصوص المتربصين. 

Exit mobile version