إشكالية العلاقة بين الاستبداد والوطنية

د. عبدالله الأشعل

د. عبدالله الأشعل

حالات الاستبداد في العالم المتقدم والمتخلف وعلاقتها بالوطنية، هي موضوع تحليلنا في هذه المقالة، لكن لابد من الإشارة في البداية إلى أن الغرب الديمقراطي يختلف عن الشرق، خاصة المتخلف منه، كما أن علم الاجتماع السياسي قدم لنا الكثير؛ مما يساعد على التحليل، ونخص بالذكر نظرية الشخصية الكاريزمية لعالم الاجتماع القانوني الشهير “ماكس فيبر”، الذي أسس لنظرية الشرعية أيضاً وهي مرتبطة بالشخصية الكاريزمية.

والسؤال الذي تطرحه هذه المقالة هو: هل هناك علاقة بين الاستبداد والوطنية؟ وإذا وجدت فهل الاستبداد إحدى صور الوطنية أم أن كليهما لا يتصور بدون الآخر؟

الاستبداد والوطنية مفهومان يجب إيضاحهما، فعندما كتب جمال الدين الأفغاني عن طبائع الاستبداد وعلاقته بالفساد؛ أكد قبل علماء الاجتماع في الغرب أن الاستبداد هو أعلى درجات الفساد، تماماً كما أوجد “لينين” العلاقة العضوية بين الرأسمالية والاستعمار بصوره المختلفة.

والاستبداد السياسي يعني ليس فقط تجميع كل السلطات في يد الحاكم، وإنما تحايل الحاكم أو حتى إقناع الحاكم لشعبه في النظم الديمقراطية بأنه الأقدر على الاستمرار في المنصب، وتكون الإنجازات شاهداً ودليلاً على صحة ما يقول، ولكن حتى هذه الحالة الإيجابية تؤدي إلى تجميد الحياة السياسية وحرمان المجتمع من الدماء الجديدة التي حرم منها بفضل آليات العمل السياسي في النظام الرأسمالي.

ولا ينكر أحد أن “هتلر” قد جاء إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، وإن كان شكلها يوحي بالقهر لأعضاء البرلمان، ولكن ألمانيا كانت متلهفة إلى زعيم بنفس الصلابة التي تتسم بها الروح الألمانية يعيد إلى ألمانيا كبريائها؛ ولذلك كان “هتلر” وطنياً مخلصاً أحبه الألمان، ولكن التاريخ فسر نهايته بأخطاء قاتلة ثلاثة؛ وهي: الخطأ الأول هو الإغراق في الوطنية وحب ألمانيا إلى درجة التسبب في الإضرار بها، والخطأ الثاني أنه استجاب لغرائزه السياسية؛ ففتح جميع الجبهات على جيشه وعلى بلاده، ثم كان الخطأ الثالث وهو أنه تدخل في شؤون قادته العسكريين الأفذاذ، ولعل المواجهة في صحراء مصر الغربية بين “رومل” الألماني ثعلب الصحراء وممثل الحكم الوطني المستبد، في مواجهته للجنرال البريطاني قائد الجيوش البريطانية في الحرب ويمثل النظام الديمقراطي الذي أفسح المجال لعبقريته صورة صادقة لأسباب هزيمة “رومل” للدكتاتورية، وانتصار القائد البريطاني بالديمقراطية.

ولنا في تاريخنا الإسلامي قدوة حسنة؛ فعندما ظن بسيف الله المسلول الظنون وهو يقود الجيوش الإسلامية في حروب الردة؛ استدعي لكي يحاسَب أمام أمير المؤمنين في التهم المنسوبة إليه، ولم يقل أحد يومها أنه لا يجوز محاكمة القائد العام للجيوش خلال دوران المعارك الحاسمة.

أما في الدول المتخلفة، فإن الحاكم أقرب إلى الاستبداد وإلى تفضيل المصالح الشخصية على المصالح العامة، وهو مؤشر التمييز بين الوطنية وغيرها، على أن تفهم المصلحة العامة على معناها المستقيم وليس على هوى الحاكم الذي يكيِّف المصالح العامة على مقاس نظامه.

وصدام حسين مثلاً أصبح حالة صارخة ليس بسبب استبداده بالمفهوم الذي قدمنا، وإنما لأنه احتك بالولايات المتحدة، وقبل أن يدخل في لعبه أكبر من ذكائه، وكان المحيطون بـ”مبارك” يقولون دائماً رداً على استمراره في السلطة إلى قيام ساعته ورغبته في توريث الحكم: إن الرجل يخاف على مصر إن تركها لغيره ولغير سلالته، ولم يكن ذلك صحيحاً مطلقاً؛ لأنه لو كان يحرص على مصر لجعلها في مصاف الأمم المتقدمة، لأنه كان يملك كل شيء، ومصر تمتلك كل شيء لكي تتقدم، ولكن حرص بعض حكامها على مصالحهم هو الذي أدى إلى تعثر مصر عن اللحاق بما تستحقه من وضع محترم.. في حالة “صدام حسين” كان مستبداً وطنياً، ولكن استبداده قضى على فرصته في أن يستمع إلى غير ذاته؛ فاحتكر الوطنية، واحتكر كل شيء تماماً، كما كان الحزب الوطني الديمقراطي حزب “مبارك” يحتكر الوطنية والديمقراطية، فلم يعد في نظره أحداً وطنياً أو ديمقراطياً خارج نظامه.

وبودِّي لو جرت مناظرة أمام الشعب المصري بديلاً عن المحاكمات التي سيحكم عليها التاريخ مع “مبارك” ونظامه لكي يعرف هذا الشعب ماذا فعلوا في هذا الوطن، ولكي تكون هذه المناظرة درساً للأجيال القادمة التي يجب أن تدرك أن مصر باقية، وأن حكامها بخيرهم وشرهم زائلون، ويبقى مع مصر القيم الأصيلة ومعاني الوطنية الحقيقية، وليس وطنية الخطب والشعارات التي تلقى ببلاهة في عصر انكشف فيه الفرق بين الصفيح والمعدن الثمين مهما كابر الإعلام في مصر وسدر في غيبوبته “الوطنية”.

فهل يمكن القول: إن هناك علاقة بين الاستبداد والوطنية؟ وما قدر هذه العلاقة؟ وهل كان الاستبداد ضرورياً لتحقيق الأهداف الوطنية للزعيم؟ وكم تكلفت البلاد بسبب أوهام الزعيم؟ وكيف تحكم الأجيال الجديدة المتحررة من جبن الآباء وعبث الزمن على حكام مصر والعالم العربي وهم يرون حكام العالم المتقدم؟ وهل هناك شك بعد ذلك في أن التقدم مرتبط ارتباطاً حتمياً بالديمقراطية حتى في أدنى مفاهيمها وهي شفافية العلاقة بين الدولة والمجتمع والقدرة على مساءلة الحاكم وهو في منصبه، وليس إرسال اللعنات إليه وهو في مرقده؟

فالديمقراطية هي البديل عن شعارات الوطنية التي ابتذلت في مصر والعالم العربي؛ لأن القانون هو الفيصل بين الحاكم والمحكوم، فلا يتستر الحاكم على فشله أو جرائمه بالشعارات الوطنية؛ ولذلك لا نجد في المفردات السياسية الأوروبية نظيراً لمصطلح الوطنية، فكلمة Nationalism تعني القومية على خلاف الدولة، كما ابتذلت مصطلحات أخرى مثل هيبة الدولة والأمن القومي، وقد كتبنا مراراً لتبصير الناس حول هذه المفاهيم، ومدى فهم المستخدمين لها لحقيقتها، وهذه مصطلحات قابلة للنقاش في الدول الديمقراطية، فالمصلحة الوطنية national interest هي الحزمة التي تحددها الحكومة في الدول الديمقراطية، وهي حكومة منتخبة تتكفل آليات النقاش والشفافية بتحرير المصطلح وليس بفرضه.

ويطول المقام إذا استدعينا إلى الذاكرة المصطلحات السابقة في الدول المتخلفة، وتلك في الدول المتقدمة الديمقراطية؛ لأن التقدم قرين الديمقراطية، خاصة وأنه من أدوات الدجل في الدول المتخلفة الحديث المتكرر عن التنمية، رغم أن التنمية أداة لبلوغ مرحلة التقدم، ولكن مصر ظلت تنمو لأكثر من قرن من الزمان دون أن تصل إلى سن الرشد الاقتصادي.

فإذا كانت الوطنية لا معنى لها في الدول الديمقراطية؛ فإن الاستبداد من باب أولى لا معنى له أيضاً إلا أن يكون بالمعنى الترفي الذي يشير إلى استمرار الحاكم في السلطة لمدة طويلة بالأساليب الديمقراطية مثل المستشارة الألمانية “ميركل”، والرئيس الفرنسي أيضاً “ميتران”، وكلاهما قضى في السلطة أكثر من عشر سنوات ليس بالدجل والتزوير، ولكن بالإنجاز، ولكن هذه الحالة تؤدي أيضاً – كما أشرنا – إلى حرمان المجتمع من الدماء الجديدة، فضلاً عن أنها تصيب الحاكم بأمراض السلطة؛ وهي الاعتياد على الأضواء وأمراض نفسية وجسمانية أخرى فصَّلتها دراسات طبية معتبرة، كما أن الحاكم البشر يقدم كل ما عنده في فترة زمنية لا تتجاوز الخمس سنوات، فإذا زاد على ذلك يكرر نفسه ويدخل في دور البلادة السياسية وعدم الحساسية والإبداع.

ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نذكر “ميلوسوفتش” الذي ارتكب الجرائم في يوغوسلافيا السابقة وخاصة بين الصرب والمسلمين تحت سمع وبصر جنود الأمم المتحدة في معسكرات البوسنة والهرسك قبل عقد اتفاقية السلام في “دايتون”، التي أنهت هذه الملحمة؛ فقد كان نموذجاً باعترافاته خلال محاكمته للطاغية الذي برر جرائمه بحبه للوطن وحرصه على تماسكه، ورسم صورة دامية للعلاقة بين الاستبداد والوطنية.

والغريب أنه في مصر كان مذهب النظام الناصري الذي ابتكره الأستاذ “هيكل” هو أن حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن، وهذه هي الصيغة المثالية لعلاقة الوطنية بالاستبداد.

والخلاصة أن علاقة الوطنية بالاستبداد لا توجد إلا في الدول المتخلفة، وعندما تصل إلى الديمقراطية فإنها سوف تتحرر من التخلف والخرافات وأوهام الزعيم.

 

Exit mobile version