مَنْ وراء جرائم نسف الجوامع؟

د. سنان احمد

 

 

 

 

د. سنان أحمد

تعرضت المناطق التي سيطر عليها ما يسمى بـ”تنظيم الدولة في العراق والشام” (داعش) إلى أبشع هجمة حضارية ودينية طالت جوامع ومساجد عريقة، خصوصاً في محافظة الموصل (نينوى) التي سماها المستشرق “جون كيست” “قلعة الإسلام”؛ حيث تم تخريب عشرات الجوامع تخريباً كاملاً، وكان من أهمها نسف جامع نبي الله يونس عليه السلام في ليلة القدر من العام الماضي!

علماً أن الموصل (نينوى) هي من أعرق المناطق الحضارية في الشرق بامتداد لأكثر من 3000 عام قبل الميلاد, ولم يكترث الجناة لأي اعتبارات, فقد تمت عملية النسف تحت ذريعة محاربة الشرك الأصغر ولا غير, وكأن سكان هذه المدينة مشركون، علماً أن نسبة المساجد إلى السكان فيها هي ثاني نسبة في العالم الإسلامي بعد القاهرة.

إن هذا الجامع الذي يقع على تل توبة، والذي يعتقد أهل الموصل (نينوى) بأنه التل الذي وقف عليه نبي الله يونس عليه السلام ودعا ربه بكشف العذاب عن قومه، واستجاب له الله في سابقة لم تتكرر لا من قبل ولا من بعد؛ (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {98}) (يونس).

ويونس عليه السلام مذكور في السيرة النبوية, فعندما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم للطائف قال ما معناه لعداس: “أأنت من بلدة الرجل الصالح نينوى؟ ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي”.

وهذا التل عند سقوط الدولة الآشورية (612 ق.م) كان عليه قصر الملك الآشوري “أسرحدون” (680 – 669 ق.م), ويقع مقابله تل قوينجق الذي تم فيه اكتشاف أقدم مكتبة مفهرسة في تاريخ العالم هي مكتبة آشور بانيبال (668 – 631 ق.م), والموجودة الآن في المتحف البريطاني، وتحتوي على أكثر من عشرين ألفاً من الرقم الطينية في مختلف العلوم والفنون.

إذاً فنحن أمام مشهد حضاري وتاريخي وديني عريق يجب ألا يغيب عن البال.

بعد ذلك تحول هذا القصر إلى معبد للنار عندما استولى الفرس على نينوى، ثم إلى كنيسة, عندما وقعت المنطقة تحت حكم الرومان، ليستقر أخيراً بعد الفتوحات الإسلامية (16ه) بكونه واحداً من أهم جوامع المنطقة على أساس أنه يحتوي على ضريح نبي الله يونس عليه السلام.

وقد مر الجامع بعدة مراحل خلال أكثر من 1400 عام، ولم يقم فيه الضريح إلا في القرن الثامن الهجري؛ أي بعد قيام الجامع بعدة قرون! ولعل من سخرية الأقدار بأنه بالرغم مما تعرضت له الموصل من هجمات على يد المغول والصفويين, فإن حفيد “هولاكو” المدعو “أحمد تكدار” أسلم على يد قاضٍ موصلي، وإن “تيمورلنك” بنى قبة جامع النبي يونس عام 1401م، وإن الصفويين لم يهدموا الجامع، وإن ما فعلته “داعش” لم يفعله أحد من قبلها ولن يفعله أحد من بعدها.

إن هذا الجامع وبقية الجوامع التي نسفت لا يمكن مقارنتها بالمراقد الشيعية التي تحتوي على أضرحة أئمة الشيعة، فليس هنالك مراسيم وطقوس خاصة في الزيارة ولا أدعية خاصة في مناسبات معينة يمارس فيها اللطم وشق الجيب والبكاء ويصاحبها هستيريا ودق الدفوف وما إلى غير ذلك, وكذلك لا يوجد أحاديث مزورة عن فضل هذه الأماكن والتي تصل في أفضليتها إلى مراتب أعلى من مكة المكرمة والمدينة المنورة كما يعتقد الشيعة عموماً, فهذه جوامع اعتيادية تقام فيها الصلوات الخمس وصلاة الجمعة, وتوجد فيها أضرحة يعتقد الناس خطأ أنها لأنبياء نتيجة تداخلات تاريخية معقدة يزورونهم ويقرؤون لهم سورة “الفاتحة” فقط، ولا يمارسون أي طقوس مخالفة للشرع أو يمكن تبريرها على أنها من الشرك، وقد قلت هذه الزيارات في العقود الأخيرة بشكل كبير جداً؛ نتيجة انتشار الوعي الديني، وأصبحت هذه الجوامع مراكز للدراسات الدينية وتحفيظ القرآن الكريم.

لقد انطلق الجناة في عملية التهديم من أسس فكرية واهية تبنتها الحركة الوهابية منذ نشأتها الأولى؛ فهدموا كل شيء في الجزيرة العربية, وهي نفس فلسفة القرامطة عندما هاجموا مكة عام (317ه) وكسروا الحجر الأسود ونهبوه؛ بحجة أن المسلمين يعبدونه، وهو اعتقاد باطل أرادوا من خلفه تدمير الدين ولا غير.

وهؤلاء القرامطة الجدد يستندون إلى الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم: “لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، وفلسفوا الأمر؛ هل إن القبر قد أقيم قبل الجامع أم إن بناء الجامع كان قبل القبر؟ علماً أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يقع الآن في قلب المسجد النبوي, مما حدا ببعض المتعصبين منهم لإزالته كالألباني وغيره.

والحديث ينسف نفسه بنفسه, فلا اليهود ولا النصارى لديهم مساجد، وإنما لديهم صوامع وبيع وكنائس، ولا يمارسون السجود في صلواتهم, ناهيك عن أن النصارى ليس لديهم أنبياء في الإنجيل، وأن عيسى عليه السلام عندهم هو ابن الله، والعياذ بالله.

وفتاوى الوهابية هي فتاوى تشنجية ليس لها مكان لفقه الخلاف والاحتمالات، ويأخذونها بتفسيرات مغلوطة عن ابن تيمية، وهو مع ذلك ليس إماماً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, فالتابعون الذين كانوا أقرب لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لديهم مثل هذه المواقف من مثل هذه الجوامع أو من الكنائس وغيرها من المسائل التي عليها خلاف، ومن كثير من الفتاوى الأخرى المنافية لتسامح الإسلام وسعة الاتفاقية، ومن أشهر هؤلاء الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150ه)، والأوزاعي (ت 157ه)، والثوري (ت 160ه)، والشافعي (ت 204ه)، وأحمد بن حنبل (ت 270ه)، وغيرهم، وكان الاختلاف في كثير من الأمور الاجتهادية أمراً اعتيادياً جداً.

والفقه الوهابي الذي هو فقه سياسي بامتياز تم اتخاذه كقشرة زاهية لبيضة فاسدة، كان هدفها محاربة الخلافة العثمانية وتشتيت الدولة الإسلامية شأنها شأن حركة “داعش” في أيامنا هذه، تحت ادعاءات فارغة بمحاربة الشرك بين أهل السُّنة وإرجاع حكم السلف الصالح، ولا يعنيهم أمر طريقة الحكم والأموال المنهوبة والقصور التي تملأ الجزيرة العربية، ويتم بناؤها من أموال المسلمين الذين يتضور معظمهم من الجوع والفقر.

إن هذا الفكر هو فكر متعصب لا ينظر إلا للخلف، ولا ينظر حوله ولا إلى أمامه مطلقاً, فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا قومه في مكة لأكثر من عقد من الزمان بالحكمة والموعظة الحسنة, ورغم أنه تعامل مع الكفار ومع من ظلمه وشرده, فإنه قال لهم قولته الشهيرة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، ولكن عندما أفتى الشيخ ابن باز بتكفير من يدعي بأن البشر قد نزل على سطح القمر على أساس أنه نور ولا غير، ومع ذلك فإن أتباعه يدعون بأن موته من علامات الساعة، وابن باز كان قد أفتى مرة ببطلان وجود قبر النبي يونس عليه السلام في نينوى، وعليه فتنتفي أصلاً فكرة نسف المساجد في هذه الحالة! فلماذا نسفت؟ وكان من الممكن أن يضع الأمر في خانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة بالتي هي أحسن، لا بتكفير هذا وإحراق ذاك، وإعطاء صورة بشعة عن الوجه الحضاري المتسامح للإسلام الذي اختصروه بالقسوة والشدة وبجرائم ضد الحضارة الإنسانية ستبقى عاراً عليهم إلى أبد الآبدين.

وعليه، فإن نسف المساجد بالصورة البربرية التي قام بها هؤلاء لا تدخل مطلقاً ضمن محاربة الشرك والبدع التي ملؤوا آذاننا ضجيجاً بها, خصوصاً وأن مخالفيهم من أهل التوحيد والشهادة والتي لا يجوز الاعتداء عليهم وعلى أسلوبهم في الحياة بهذه الصورة الوحشية التي لا تخدم إلا أعداء الإسلام, والذين هم بالتأكيد وراء هذه الصورة القبيحة.. وذلك له حديث آخر.

 

 

 

Exit mobile version