من سيطفئ الحريق؟

د. إبراهيم بو محمد

 

 

د. إبراهيم بو محمد

من الحروب المؤلمة في تاريخنا والتي استمرت أربعين عاماً حرب “داحس والغبراء” لأجدادنا العرب الأجاويد.

الحرب الغبية بين العبسي والذبياني كانت بسبب سباق مغشوش، قام فيه طرف بحيلة عطلت فوز بعير الطرف الآخر، وهذه الحرب الغبية تتكرر اليوم، ولكن ليس بين ناقة وبعير، وإنما بين أجهزة استخبارات ذكية وخبيثة وقوية، وبين عاطفة دينية شابة لها تجاه دينها عشق وأشواق، لكنها مستغفلة ومستغلة في عواطفها.

وإذا كان تنظيم “داعش” يشكل مشكلة تؤرق العالم بأسره، ويستهدف كل من يخالفه، ويحقق بتصرفاته البشاعة المطلوب إلصاقها بكل ما هو إسلامي فالسؤال الطبيعي هو:

من الذي صنعه؟ ومن موَّله وسلَّحه وفتح له الطريق وتركه يتمدد هكذا كالسرطان؟

ولماذا تبدأ وتنشأ أكثر ظواهر العنف في منطقة الشرق الأوسط وحده؟

وما الذي يجعل هذه المنطقة بالذات الأكثر استجابة في العالم لقبول ونمو وانتشار هذه الظاهرة؟

هل مجرد وجود تيار فكري يلبس ثوباً دينياً ويصطبغ بظواهر الدين وينأى عن حقيقته ويجعل الموت هو الخيار الأفضل دخل في انتشار هذه الظاهرة؟

أم أن لغياب الديمقراطية ووجود أنظمة مستبدة تقمع الحريات وتحتكر السلطة والثروة دخل في انتشار الظاهرة؟

وهل لغياب العدالة وانتهاك حقوق الإنسان وازدواجية المعايير ووقوف القوى الكبرى ضد إرادة الشعوب ومساندة الدكتاتوريات دخل في انتشار الظاهرة؟

وما الذي يغري شباباً يعيش في قلب مجتمعات الغرب وبعضهم ولد فيها ليلتحق بـ”داعش”، ويترك كل أنواع المتعة والرفاهية وبريق الحضارة ومعطيات التكنولوجيا وهو يعلم أن مصيره سينتهي بالموت حتماً أو السجن المؤبد؟

إثارة هذه الأسئلة تجعلنا نبحث الحالة بحثاً علمياً بعيداً عن الأحكام الجاهزة والمسبقة، كما أن استعراض أسبابها في سياقها الواقعي يدفعنا إلى مزيد من البحث عن المستفيدين من خلق بؤر للصراعات التي تبدأ بالتوترات، مروراً بالحشود الإعلامية والدعائية ضد هدف محدد، وانتهاء بإعلان الحرب.

من الذي لا يريد للدنيا أن تهدأ؟ ولا للعالم أن يستقر؟ ولا للحروب التي تغتال الحياة وتصادر حق الإنسان في الحرية والطعام والشراب والصحة والتعليم والرفاهية أن تنتهي؟ ثورات “الربيع العربي” كانت محاولة شعبية للخروج بالمنطقة من مجموع هذه الأزمات، لكن المال العربي والدعم السياسي الدولي انحاز ضدها؛ فأضحت تعاني حالة من الاختناق في بعض الدول بينما تعاني سكرات الموت في دول أخرى.

البحث عن الفاعل المستفيد يدفعنا إلى النظر في مناطق الجاذبية البترولية والدول ذات التأثير في المحيط الإقليمي والدولي في المنطقة ذاتها.

على حدود النظر العقلي يلحظ الباحث حالة من الرفض والكراهية والمحاربة لما يسمى بالخيار الديمقراطي أو الدولة الدستورية في المنطقة، ويبدو أن الغرب ليس سعيداً بالتغيير؛ لأنه لن يجد من يخدمه أكثر من تلك الأنظمة المشوهة ولو كانت كابوساً على أنفاس شعوبها؛ ولذلك ظهرت منه إشارات بدء الهجوم على ما يطلق عليه بثورات “الربيع العربي” وكانت الاستجابة مذهلة.

فبعض الأنظمة سخرت وتسخر كل قدراتها لمقاومة وسحق كل أفق للحريات، وإغلاق كل نافذة للإصلاح والتغيير ولو كان يشكل أملاً لكل شعوب المنطقة

وبعض الأنظمة الأخرى لا تؤمن إلا بالعصا الغليظة لتأديب كل معارضة؛ ومن ثم فالمنطقة هي المساحة الجغرافية الأوسع التي تعاني حالة انسداد في الأفق السياسي وإغلاق لكل منفذ للإصلاح.

هذه البيئة المحتقنة دائماً والتي تقدم فيها الشعوب لحكامها الطاعة ثم لا تأخذ في مقابلها غير الهوان سحقاً وإخفاقاً هي أكثر البيئات التي تحمل جنين التطرف والعنف، ويزيد الأمر تعقيداً وتوتراً هزيمة الديمقراطية التي تحدث عنها الكثيرون كخيار للتغيير السلمي؛ فيجدونها قد تبخرت وذابت وحلت محلها دكتاتوريات جديدة جاءت موافقة لهوى السادة الكبار وبمساعدتهم.

هزيمة الديمقراطية بالقطع سيكون لها تداعيات، لا أظن أن السادة المنتصرين في جولتها الأولى قد حسبوا حسابها، ففي العشر سنوات القادمة لن يكون الفائز الأكبر في هزيمة الديمقراطية إلا التيار الراديكالي، كما لن يكون الخاسر الأكبر في هزيمة الديمقراطية طرفاً واحداً فقط، وإنما أطراف كثيرة في المقدمة منهم التيار الإسلامي المعتدل ويليه في الخسارة دول الغرب ذاتها.

فبهزيمة الديمقراطية سيفقد التيار الإسلامي سنده العقلي والعملي في الاعتدال والوسطية، وستبطل حجته أمام التيار الراديكالي بضرورة المشاركة الديمقراطية كوسيلة للاندماج السلمي والمشاركة في الحضور المجتمعي.

والبداية ظاهرة، فبعد الإطاحة بالديمقراطية في الشرق الأوسط ووقوف الغرب والأنظمة التابعة له مع الانقلاب وضد إرادة الشعوب؛ بدأ التيار الراديكالي الآن يخرج لسانه استهزاءً للتيارات المعتدلة التي تدعو للخيار الديمقراطي والمشاركة السياسية السلمية، ويسخر من اعتداله، ويعيِّره بأنه لم يجن من إيمانه بالديمقراطية بداية إلا ضياع الوقت، ونهاية إلا الذبح في الميادين، والتنكيل بمن بقي حياً في معتقلات الأنظمة التي ساندتها دول الغرب والإقطاعيات التابعة له في المنطقة.

وفي جلسات حوارنا وبعد انسداد كل أفق للتعبير عن الرأي والانخراط في العملية السياسية وإقصاء الخصوم وشيطنتهم؛ أصبحنا نعجز عن تقديم الدليل على أن الديمقراطية هي السبيل الصحيح للمشاركة السياسية لكثرة فضائح الغرب في التعامل معها بازدواجية ممقوتة، فهو يدعو إليها ويشجع عليها حين يريد التخلص من دكتاتور عميل انتهت صلاحيته، فإذا جاءت الديمقراطية وبكل شفافيتها بمن لا يرغب فيه؛ فإنه يحرض بالانقلاب عليها ويعطي حلفاءه دروساً ودورات تدريبية في كيفية حصارها والقضاء عليها حتى لو كانت في دول الجوار، ويساند دكتاتوراً جديداً في بسط نفوذه ومد سيطرته واغتيال الديمقراطية الجديدة إن جاءت بمن يخالفه.

ثم هنالك شيء مهم في الحرب الخفية والمعلنة؛ وهو مصطلح “الدولة الإسلامية” ومصطلح “الخلافة”، وهما مصطلحان يسبب مجرد ذكرهما في المجالس الخاصة أو العامة صداعاً تراه بعض الأنظمة في منطقتنا صداعاً مزمناً وأليماً ويشكل خطراً على وجودها.

والأمر ذاته بالنسبة لكثير من مجتمعات الغرب، فالتقى الحلفاء كل وهواه أو التقى السادة والعبيد على أمر بيت بليل وهو تشويه المصطلحين بخلق نوع من الارتباط الشرطي بينهما وبين صور الذبح والحرق والتقتيل اللا إنساني التي تمارسه “داعش”، ومن ثم خلق صورة ذهنية رافضة بل محاربة لوجود هذا المصطلح، وعدم السماح حتى بذكره أو طرحه لمجرد الحوار الشخصي بين طرفين، فإذا تحدثت عن خلافة أو دولة إسلامية استحضرت الذاكرة فوراً كل عوامل الغضب والإثارة في النفس البشرية لتصفك بأنك مؤيد لـ”داعش”، أو أنك من حزب كذا الذي يدعو للخلافة، ومن ثم لابد من ضربات استباقية للمصطلح حتى لا يأخذ فرصة الامتداد أو التمدد الثقافي ولو في أذهان الناس على أساس أنه من ثقافة العنف والعدوان ورفض التعايش السلمي بين الفئات.

والطوائف والشعوب والمجتمعات، وهكذا يساهم غباء العبيد في العالم العربي وغباء سادتهم في العالم الغربي في صب الزيت على النار وإشعال الحريق.

وأصبح العالم بين فكي كماشة طرفها الأول هم هؤلاء الذين تسببوا في غش السباق الديمقراطي وفضلوا أن تنتصر الغبراء في السباق ولو بمؤامرة مغشوشة تساندها قوة الدبابة، وأولئك الذين كانوا مخدوعين بشعارات الغرب عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ ليستفيقوا على كارثة يجدون فيها أنفسهم وقادتهم مستهدفين في حياتهم استهداف استئصال، وبكل أسلحة الدمار القذرة، ومن ثم فلا ملاذ لهم غير اللجوء ولو إلى الشيطان ليوجعوا عدوهم، وهكذا تبدأ الحرائق.

لقد آن لرهبان الصمت أن يتكلموا وألا يتركوا القيادات السياسية في الغرب تحديدا فريسة لنصائح أجهزة الاستخبارات التي لا تعرف غير مفهوم المؤامرة والمؤامرة المضادة، والبحث عن عدو ولو اضطروا إلى خلقه وتصنيعه لتظل دائماً يده طليقة في التصرف بعيداً عن ضوابط القانون ودون رعاية لحرية الإنسان وحقوقه من ناحية.

ومن ناحية أخرى تخلق هذه الصراعات فرصاً كبيرة أمام شركات تصنيع الأسلحة للتخلص من الأجيال القديمة وتجريب الأنواع الجديدة، ولتظل عجلة الإنتاج والتطوير في شركات السلاح مستمرة في دورانها، ولو كان الثمن دماء الأبرياء وكرامة شعوب بأكملها، ولتبقى مخصصات رجال الأمن ومزاياهم وميزانياتهم في ازدياد مستمر.

في منطقتنا العربية الحرة المستقلة إذا أردت البحث عن خبراء في إشعال الحرائق سيعجزك العد والحصر والإحصاء، بينما إذا أردت أن تبحث عمن له خبرة في إطفاء الحرائق ربما لا يصادفك إلا من يحمل الزيت ليزيد الحريق اشتعالاً بدلاً من أن يحمل الماء ليطفئ.

ومع ذلك فلا تيأس فربما تتوقف العواصف ويتغير المناخ وتمطر السماء.

 

 

 

 

 

Exit mobile version