ذكريات مع عماد الدين خليل

سعد سعيد الديوه جي

سعد سعيد الديوه جي

 

عماد الدين خليل علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وابن مدينة الموصل التي أنجبت عشرات الأعلام؛ كابن الأثير، وعماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي، وغيرهم العشرات من الأعلام الذين خدموا دينهم وعروبتهم بإخلاص وتفانٍ على مدار التاريخ، وهي المدينة التي تحملت ومازالت مصائب لم تتحملها مدينة أخرى في تاريخها الطويل.

ويكفي عماد الدين خليل فخراً وانتماءً للموصل أنه أثناء دراستي في بريطانيا وعندما قدمت نفسي لأحد الإخوة المسلمين، قال لي: إذاً أنت من مدينة عماد الدين خليل!

وفي هذا الحيز الضيق لن أكتب عن كتبه ومؤلفاته التي تجاوزت العشرات، ولا عن مقالاته التي تجاوزت المئات، وذلك الرابط الذي يربطه بالإسلام مع معاصرة قلما يدركها إلا من جلس معه وأستمع إليه، ولا أظن أن مجلة إسلامية معاصرة تخلو من مقال أو دراسة لأستاذنا الكبير.

في السبعينيات من القرن الماضي، كان يتردد بين الفينة والأخرى على منزلنا في حي الثورة، ويناقش والدي رحمه الله في أفكاره ويهديه مؤلفاته التاريخية، فقد كان آنذاك منغمساً بتاريخ الدولة الزنكية وشخصية عماد الدين الزنكي، مؤسس الإمارة في الموصل، ودوره في بناء أسس تحرير بيت المقدس، علماً أن والدي رحمه الله هو صاحب كتاب تاريخ الموصل الذي خصص له جزءاً كبيراً من وقته.

في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي تم استبعاده من سلك التدريس في الجامعة من قبل سلطات “صدام حسين” مع عشرات من حملة الشهادات العليا بسبب ميولهم الإسلامية ولا غير، وأحيل إلى وظيفة بسيطة في مكتبة متحف الموصل الحضاري، ورغم أن الوظيفة لم تكن لتناسب مكانته العلمية، فإنه قام بها على أكمل وجه، وقد كنا نزوره مع الوالد آنذاك في مكتبه المتواضع، ولم أسمع منه تأففاً وشكوى أو إلقاء اللوم على أحد رغم ما لحق به من إجحاف وظلم.

عماد الدين خليل رجل متواضع إلى أقصى الحدود، فرغم فارق السن بيننا؛ فإنه يعبر عن تواضعه بالإصغاء إلى محدثيه، خصوصاً في المجالات العلمية كالطب والصيدلة والهندسة، لا يزج نفسه إلا بما يعلم، وعندما كنا نزوره في داره الكائن في منطقة الطيران كان يقوم بنفسه بفتح الباب وتقديم الشاي ويرفض أن يقوم أحد بالعمل مكانه.

وهو يفهم الدين فهماً حضارياً، ولا يتردد في حضور الصلوات الخمس في الجامع القريب من داره، رغم أشغاله الكثيرة وتزاحم طلاب العلم على داره؛ حيث لا يبخل على أحد بإبداء النصح أو تقديم مشورة وبتواضع الأتقياء والصالحين.

في عام 1995م كان يلقي محاضرة في جامع الطالب الكائن بمنطقة الرفاعي، وبعد صلاة التراويح قام أحد الشباب الملتحي وسأله باستغراب عن عدم امتلاكه للحية (آنذاك لم تكن عنده لحية) فأجابه بأن اللحية مسؤولية! وكانت تلك من الأجوبة التي بقيت ترن في خاطري إلى الآن.

عماد الدين خليل لا يتكلم عن نفسه ولا عن علمه أو مؤلفاته، إلا إذا سئل عنها أو طلب منه أحد تفسيراً معيناً لمسألة معقدة، وهو يحب الأكلات الموصلية العريقة، بالإضافة إلى أحاديثه المشوقة عن الأكلات التي يتناولها خلال أسفاره المتعددة، زائداً لحبه للمزاح الخفيف ضمن دائرة الأدب.

بعد رجوعه لجامعة الموصل وقيامه بالإشراف على دراسات الماجستير والدكتوراه لم يتردد في تدريس طلاب الدراسات الأولية، وكان يشتكي من ضعف ثقافة هذا الجيل في دراسة التاريخ.

وقد حكى لي بأنه في أحد “كورسات” الدراسات العليا، كان لديه في الحصة المخصصة 12 طالباً، وسألهم أن يجيبوا بإخلاص عن عدد الكتب التي قرؤوها في عام واحد خارج مجال الاختصاص؛ فأجابه تسعة منهم بأنهم لم يقرؤوا كتاباً قط (أي 75% منهم)، واثنان قرأا كتاباً واحداً والأخير قرأ كتابين!

كان يتألم كثيراً من ضعف ثقافة الجيل الجديد الذي صار من السهل خداعه وتزييف الحقائق أمامه، كانت غيرته على الدين لا يماثلها شيء، فبعد احتلال العراق طلب أحد القادة الأمريكيين في الموصل مقابلة مجموعة من أساتذة الجامعة وكان هو بينهم، وعندما علم من المترجم بأن الجنرال الأمريكي قد تكلم عن الإسلام بما لا يعلم تدخل سريعاً وأخبره ألا يتكلم عن أشياء لا يعرفها وخصوصاً عن الإسلام ولم يجرؤ أحد غيره على الكلام.

رغم مشاغله الكثيرة فهو يؤدي الواجبات الاجتماعية في كل المناسبات على أكمل وجه، فقد زارني في داري مع أخ صديق عام 2008م بعد رجوعي من العمرة، وعام 2011م بعد رجوعي من الحج، ولديه من الأفكار والوقفات عن معنى الحج وفوائده ما يحسده عليه أهل مكة، ولم يكن مرتاحاً من تطاول ناطحات السحاب حول البيت الحرام.

في عام 2006م أهديته كتابي الموسوم “أرض فلسطين بين إرادتين”، والذي تكلمت فيه عن الصراع الذي دار بين السلطان عبدالحميد رحمه الله، و”هرتزل”، فاتصل بي بعد أيام على الهاتف وهنأني على ما جاء في الكتاب، وهذا دليل على تواضعه وعدم تكبره وتشجيعه لمن هو دونه.

قبل حوالي ثلاث سنوات وفي وزيارة روتينية مع أحد الأصدقاء من جيرانه له في داره، اعترضت على ما جاء في إحدى مقالاته، ولكنه ألمح إلى سوء فهم من قبلي وخرجت من عنده مرتاحاً، ولكنه ذهب بنفسه إلى دار الصديق المشترك حاملاً بعض مؤلفاته وعليها إهداء بخطه وتوقيعه، فقد اعتقد بأنه بقي على خاطري شيء من رده، وهو لم يكن كذلك مطلقاً، وذلك يدل على طيب سجيته وحسن أخلاقه وتسامحه إلا فيما يغضب الله.

لم نتصل منذ حوالي تسعة أشهر منذ نكبة الموصل الأخيرة، والتي أعتقد بأنه يعيش آلاماً نفسية مرة على ما حل بمدينته وأهلها، والله المستعان.

 

 

Exit mobile version