أبناء المؤسسة.. لماذا أذلّوها؟

د . حلمي محمد القاعود

 

 

 

 

د. حلمي محمد القاعود

 

لا يمكن أن تكون المؤسسة هي “جمال عبدالناصر” أو “أنور السادات” أو “حسني مبارك” أو “المجلس العسكري”؛ وبالتالي فإن من يوجه نقداً لأخطاء هؤلاء وخطاياهم لا يكون راغباً بحال في هدم المؤسسة العسكرية كما يقول: “الواد والبت والبتاع” من الأذرع الإعلامية، ذلك أن المؤسسة العسكرية في أغلبها الأعم هي أبناء عموم الشعب المصري من المجندين الغلابة وضباط الاحتياط، وكنت واحداً من هؤلاء طوال مدة ست سنوات بدأت عقب الهزيمة وانتهت بعد العبور، أي إنني حين أكشف الأخطاء والخطايا لأولاد المؤسسة لا أنتقد الجيش ولا أهدمه، ولكني أسعى إلى التقويم والإصلاح من أجل بلادي وعزتها وقوتها ومجدها.

الفكرة الأساسية التي يؤمن بها الغرب الاستعماري واليهود الغزاة تجاه المؤسسة أن من يرتدي الزي العسكري لا يجوز له أن يحكم البلاد ولو كان منتصراً، فكيف لو كان منهزماً؟ وضيّع الأرض ولوّث العرض؟ إنهم يؤمنون أنه إذا أراد أحدهم العمل السياسي عليه أن يخلع بزته العسكرية ويندمج في الحياة العملية عدة سنوات، ويتحرك من خلال صندوق الانتخابات وليس صندوق الذخيرة!

على المستوى العالمي، اشتهر “تشرشل”، و”ديجول”، و”إيزنهاور”، وجنرالات العدو الصهيوني الذين قادوا بلادهم إلى النصر، وحين أرادوا العمل السياسي خضعوا لصندوق الانتخابات وإرادة الشعوب، ولم يحتكموا إلى صندوق الذخيرة وإعلام “الواد والبت والبتاع”، وحين رفضتهم الشعوب في انتخابات نزيهة واستفتاءات حرة تركوا سدة الحكم لمن تختارهم الشعوب، فحققت بلادهم تقدماً فائقاً، ومضوا في مجال الإبداع العلمي والفكري والإنتاجي والعسكري.

حلمت ثورة يناير العظيمة أن تنهض مصر بإرادة شعبها، ولكن أبى العسكر إلا السطو عليها بالتحالف مع قوى الشر في الداخل والخارج، وفرضوا إرادتهم وأعادوا حكم المؤسسة مرة أخرى بصندوق الذخيرة، ووضعوا البلاد على حافة الغرق!

أصر البكباشي الأرعن على الانفراد بالحكم، وصفّى زملاءه المطالبين بالديمقراطية وحلّ الأحزاب، ونصب المشانق، وملأ المعتقلات، وقام بتفجيرات عديدة في أرجاء القاهرة، وسيّر مظاهرات مأجورة تنادي برفض الديمقراطية وتضرب رئيس مجلس الدولة (السنهوري)؛ ليطيل مدة المرحلة الانتقالية التي أعلنها، وليصنع بعدئذ دستوراً على هواه، ويؤمّم الصحافة والاقتصاد، ويفرّ أمام العدو اليهودي، ويحارب في اليمن والكونغو والجزائر، ومن أجل الاحتفاظ بالكرسي ضيّع السودان، وأنفق أموال الدولة على الدعاية الفاشلة التي قام بها المنافقون والأفاقون والمرتزقة والكذبة، وكان هدفه الأسمى قراءة عناوين الصحف وموضوعاتها قبيل صدورها في الصباح، ومتابعة ملخصات ما تكتبه الصحف الأجنبية عنه، ولا يعنيه أن مصر التي كانت قوية اقتصادياً تتراجع، وتخسر في المعارك الغلط، وتستدين، وتتسول، وتنتظر معونات اللئام والأعداء!

تصور أن آلة الدعاية حين تتحدث عن إنجازاته المزعومة في العدالة الاجتماعية وبناء الاقتصاد القومي، وإنصاف العمال والفلاحين، وخدمة الإسلام بإنشاء إذاعة القرآن الكريم ومدينة البعوث الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بقيادة الملازم عويضة، سوف يغطي على أنين المعذبين في السجن الحربي، أو يشطب من التاريخ ضحايا القتل المجاني، أو شهداء الهزائم المريعة التي توالت حتى رحيله.

لقد اعتمد على “مسيلمة الكذاب”؛ ليزيّن صورته، ويضعه في صورة الزعيم الملهم، بينما الشعب يصكّ مصطلحات من قبيل: وراء الشمس، والحيطة لها آذان، هو وحده الذي يرى ما لا يراه المصريون التعساء، حتى مضى إلى ربه واليهود على ضفة القناة يسخرون من المؤسسة والمصريين جميعاً!

أما اليوزباشي المحنّك الذي خلفه، فقد أدرك أن الناس يمكن أن ينجزوا شيئاً حقيقياً إذا ما أتيحت لهم الحرية، فلم يمنحهم منها إلا قليلاً ليعبروا قناة السويس، وبعدها أغلق الصنبور، وألقى بدماء الشهداء في حجر “مناحم بيجين”، وأتاح للصوص الانقلاب أن يخرجوا ما نهبوه وأن يتحولوا إلى لصوص أقوياء لا يقهرهم أحد؛ فراحوا يهيمنون على التوكيلات والشركات والأراضي والمجالس النيابية الشكلية ومفاصل الدولة والدولة العميقة، وعاد القمع من خلال ما سمي بخطة “تجفيف المنابع”، وفي النهاية كان مصيره مأساوياً مؤلماً.

وعندما جاء صاحب الضربة الجوية الأولى أو النسر الأعظم كما سماه صعاليك المثقفين سار على النهج ذاته، وضخم حجم الدولة القمعية، واستخدم الديكور الحزبي والدعائي ليقول للسادة في الغرب وتل أبيب: نحن ديمقراطيون، بينما المعتقلات تغص بعشرات الألوف من الأبرياء دون محاكمات، والفساد يرعى في شتى أرجاء البلاد والمؤسسات، والفسدة يقتلون الشعب بالسرطانات والأوبئة والملوثات والمبيدات المحرمة والرشوة والمحسوبية والزحف المقدس، وأرض مصر وثرواتها تباع بسعر التراب!

وعندما ثار الشعب في يناير 2011م وصار الأمل قاب قوسين أو أدنى في تطهير البلاد من الفساد وبدء عهد جديد من الحرية والكرامة والعدل؛ لم يتورع “المجلس العسكري” عن خداع المصريين، ثم الانقضاض على مكتسبات الثورة الحقيقية بانقلاب خسيس صنعته قوى الشر والغدر والخيانة في الداخل والخارج، معتمداً على الآليات ذاتها التي قام بها البكباشي الأرعن في الانقلاب الأول، مع تفاوت التقنيات وتغيير الوجوه، وإن كان “مسيلمة الكذاب” عرّاب الانقلابات ما زال موجوداً، يزيّن الشر، ويحسّن الخطايا، ويرشد إلى صناعة الجرائم الكبرى واستئصال الإسلام!

مصر الآن تُحتضر، مصر الآن في غيبوبة، وشعبها البائس بين نارين؛ نار الفقر والحياة الصعبة، ونار القهر الذي لا يكف الاستبداد العسكري عن ممارسته، والتزييف الذي تتقنه آلة الدعاية الهتلرية الكاذبة!

ترى هل يمكن فهم مقولة “سوزان ثابت” زوج المخلوع “مبارك”: “نعلم يقيناً بأن مصر لا يحكمها إلا ابن المؤسسة العسكرية”!

إن العسكر لا يصلحون لحكم البلاد؛ لأن هذه ليست مهمتهم، دورهم الطبيعي والدائم هو حماية البلاد والعباد، وأضيفت إليهم مهمة جديدة وحيوية وهي تأمين مصادر المياه حتى لا يموت الشعب عطشاً.

ترك هذه المهمة وذاك الدور، والتفرغ لمرمطة مصر في هزائم عسكرية وحروب عبثية كما جرى في عهد البكباشي الأرعن، أو الدخول في متاهات الحكم والقمع وانهيار الاقتصاد؛ عمل غير طيب لا يليق بأبناء المؤسسة!

 

 

 

 

Exit mobile version