المخابرات.. بين الأمن والسياسة

توفيق بوعشرين

توفيق بوعشرين

 

أقدمت رئيسة الأرجنتين، “كريستينا فرنانديز”، الأسبوع الماضي، على قرار لم يسبقها إلى مثله مسؤول في أي دولة، يقضي بحل جهاز مخابرات بلادها، وإعادة تشكيل بديل شفاف ونزيه، ويخدم المصالح العليا للبلاد، ولا يتدخل في السياسة وفي القرار.

وكانت قد أعلنت اعتزامها ذلك، وسط شكوك في أن ضباطاً فاسدين في الجهاز كانوا وراء وفاة غامضة لعضو في النيابة العامة، كان يحقق في تفجير مركز يهودي في بوينس أيرس وقع عام 1994م.

وفي كلمة لها، بعد العثور على “ألبرتو نسمان” مقتولاً برصاصة في الرأس، قالت: إنها سترسل إلى الكونجرس (البرلمان) مشروع قانون لحل الجهاز السري القائم، وإعادة تشكيل جهاز أمني جديد، يكون أكثر شفافية ونزاهة، ويخضع لمراقبة الحكومة والقضاء.

كانت وفاة “نسمان”، في 18 يناير الماضي، صدمة للرأي العام الأرجنتيني، فقد قتل قبل أيام من مثوله أمام الكونجرس، ليجيب عن أسئلة تتعلق باتهامه رئيسة الدولة بالتآمر مع إيران، لتعطيل سير التحقيق في ذلك التفجير الذي اتهمت إيران و”حزب الله” بالوقوف وراءه، وادعى النائب أن الرئيسة تريد النفط الإيراني في مقابل إقفال الملف، وتبرئة طهران من دم اليهود القتلى في الحادث.

ردت حكومة الأرجنتين على هذه الاتهامات، ووصفتها بأنها سخيفة وغير حقيقية، وقالت: إن الرئيسة حريصة على معرفة الحقيقة، كما هي، ومن دون تسرع في اتهام أحد لفائدة جهات خارجية.

وقالت أيضاً: إن النائب العام غُرّر به لاتهام الرئيسة بهذه المزاعم، لمنعها من الاقتراب من الملف الحساس، وحتى لا تظهر حقائق جديدة قد تعصف بالرواية الأولى، وإن الأجهزة السرية اغتالته، عندما لم يعد مفيداً للذين دبروا المؤامرة، والفضيحة مرتبطة بصراع على النفوذ في جهاز المخابرات بين ضباط أقيلوا، أخيراً، من مناصبهم، وآخرين مازالوا يخدمون أجندات خاصة داخل الجهاز.

وهناك عشرات القصص الأخرى عن خروج أجهزة المخابرات عن سيطرة الحكومات والبرلمانات والقضاء والقانون، في دول متخلفة ومتقدمة.. الفرق أن الدول الديمقراطية تصحح الاختلالات، وبين فترة وأخرى، تفتح ملفات قذرة لمخابراتها، كما جرى، أخيراً، في أمريكا، حيث شكّل الديمقراطيون لجنة من الكونجرس، وجهت اتهامات من 600 صفحة إلى وكالة المخابرات الأمريكية، بأنها استعملت 20 نوعاً من التعذيب المحظور لانتزاع اعترافات من متهمين بالوقوف خلف عمليات إرهابية في معتقلات سرية، عقب أحداث “11 سبتمبر”.

لكن الدول المتخلفة لا تقدر على فتح الحساب أمام الأجهزة السرية، حتى عندما تظهر تجاوزاتها وجرائمها إلى العلن؛ لأن السياسيين يخشون هذه الأجهزة التي تمتلك الأسرار الخاصة والعامة عنهم، ويخشون من نفوذ المخابرات في عالم المال والأعمال، وفي وسائل الإعلام، علاوة على ارتباطات نسجتها هذه الأجهزة مع قوى إقليمية ودولية، تحميهم وتنسق معهم؛ لهذا، يتعايش السياسيون في العالم الثالث مع هذه الأجهزة، ويغضّون الطرف عن تجاوزاتها، ولا يجرؤون على تقييد عملها بالقانون، إلى أن تهوي بهم وبالدولة إلى قعر الهاوية.

المخابرات أجهزة أمنية حساسة لحماية المواطنين والقانون والشرعية، وممولة من جيوب دافعي الضرائب، وفي خدمة من ينتخبهم الشعب، ولأن عملها وميزانيتها سريان، تتمدد إلى ما ليس اختصاصها، تغريها السلطة بين يديها، والإمكانات التي تحصل عليها، وخوف الدولة العميقة ونخبها من الشارع، ومن التغيير والإصلاح؛ ولأن المراقبة غائبة، يتحول المخبرون من أمنيين وموظفين إلى سياسيين ومقررين، وتصبح المعلومات بين يديهم أدوات للتحكم والتضليل والتلاعب بالعقول وفبركة الملفات للمعارضين وبرمجة التفجيرات عن بعد، وعمليات الاغتيال، حتى يصير الأمن أعز ما يُطلب، وهنا لعبتهم المفضلة.

لهذا، فكرت “كريستينا” في أن أقصر الطرق لإصلاح مخابرات بلدها، التي تشكلت، منذ عقود، على معاداة الشعب والديمقراطية ودولة القانون، واهتدت إلى قرار حلها، وإعادة بناء أخرى جديدة، على أسس وعقيدة جديدتين.

 

المصدر: العربي الجديد

 

 

Exit mobile version