وأنت حرٌّ كريم

طارق محمد الشايع

 تساؤل يراودنا ونحن نتابع أخبار القدس والمسجد الأقصى المبارك، وما يعانيه أهلنا في القدس من واقع مؤلم، وانتهاكات يومية لحرمة المقدسات, هل يمكن أن تبقى أمة المليار والنصف مليار صامتة هامدة راكدة لا حراك فيها، جامدة عن تلبية نداء الأقصى الذي يصرخ صباح مساء؟! أطلقها صرخة داوية لعل صداها يلقى قلوباً حية بالإيمان، قوية بالتوكل على الرحمن، عزيزة بحمل راية القرآن، أبية باتباع هدي سيد الأنام، حثيثة في طلب أعلى الجنان؛ فعن أبي عمرو – وقيل أبي عمرة – سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحداً غيرك، قال: “قل آمنت بالله ثم استقم” (رواه مسلم)، فهي لك أيضاً أيها المسلم أن يوافق قولك عملك، وتنتصر للقدس

والأقصى، وأن تُخرج نفسك من دائرة “أن تقولوا ما لا تفعلون”.

ونحن – أحبتي في الله – لا نرى غير ذلك أن ننتفض لنصرة الحق وحماية المقدسات، وأولها أقصانا المبارك, فحياتنا ملك لخالقها, وقد أَمرنا أن نسخرها له سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}) (الأنعام)، ولن يكون للحياة طعم حتى تذوق مرارتها, وما أجمل أن تعيشها لأجل قضية هي من أسمى القضايا، نصرة لمسجده, ومسرى نبيه، وملتقى أنبيائه, وبوابة سمائه: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}) (العنكبوت).

يقول الشاعر أبوالقاسم الشابي:

أبارك في الناس أهل الطموح       ومن يستلذ ركوب الخطرْ

وألعن من لا يماشي الزمـان       ويقنع بالعيش عيش الحجرْ

هو الكون حيٌ يحب الحيـاة       ويحتقر الميت مهمـا كبرْ

فلا الأفق يحضن ميت الطيور    ولا النمل يلثم ميت الزهرْ

وأعلن في الكون أن الطموح      لهيب الحياة وروح الخطرْ

والله الذي لا إله إلا هو؛ لا يحيى هذه الحياة إلا كل شجاع جسور، يبغي رضا الله بنصرة إخوانه ودينه وحرماته ضد كيان مغتصب محتل؛ سعى لتهجير المقدسيين من

الأرض المباركة.

أحبتي في الله، لا تفتر عزائمكم وقواكم في نصرة إخوانكم ومسجدكم، ولا تولوا وجوهكم عنهم، ولا تركنوا أو تتراجعوا؛ وإني لأستذكر في هذا المقام دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يدعو ويقول: “اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة”.. نعم؛ ذلك هو الثقة الذي ننتظره ونبحث عنه؛ والذي ترنو الأنظار إليه ليتقدم الصفوف، ويستلم زمام الأمور قائداً ربانياً مقداماً، بينما يعمل

الكيان الصهيوني الفاجر آناء الليل وآناء النهار ليصد الناس عن سبيل الله، مغتصباً الأرض والعرض.

إنّ هذا العصر ليل فأنـر        أيها المسلم ليل الحائريـن

وسفين اليوم في لج الهوى      لا يُرى غيرك ربان السفين

وإنا لنعلنها صرخة عالية مدوية كما أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل ألف وأربعمائة سنة، ففي السيرة: أن الملأ – سادة الكفر من قريش – اجتمعوا في الحجر، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، يقول الراوي: فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استقبل الركن ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فغضب الرسول صلى

الله عليه وسلم، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: “أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفس محمد بيده؛ لقد جئتكم بالذبح”.

فأرعبت القوم كلمته فصاروا وكأن على رؤوسهم الطير من الرعب، وقالوا له: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً فوالله، ما كنت جهولاً، فانصرف رسول الله صلى

الله عليه وسلم وتركهم.

وهذا حديثنا والله لأهل الباطل, أهل الخرافات والأباطيل، يا بني صهيون، إنما جئناكم بالذبح، وجئناكم بالعمل والتضحية لأجل دين الله تبارك وتعالى, أرواحنا على أكفنا، فلن نألو جهداً صغيراً كان أم كبيراً إلا وسنبذله لتنكيس راياتكم

فأبشروا.

ولا تقل أيها الأخ الكريم والأخت الكريمة: ليس لنا أي دور يذكر, وبأنه ليس لدينا مواهب تأهلنا للقيادة أو غيرها, ألا يكفي أيها الكرام تواجدكم وتفاعلكم لنصرة إخوانكم أهل الرباط, أهل المسجد الأقصى المبارك.. بلى؛ إن الصهاينة

يغيظهم هذا التواجد وهذا التوحد لأجل قضيتنا، وإنكم لتؤجرون على ذلك, فإن إغاظة أهل الباطل عبادة نتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، فانظروا وتأملوا موقف الصحابي الجليل عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه؛ ففي “الطبقات

الكبرى” لابن سعد قال: عن أبي عبدالرحمن قال: لما نزلت (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء:95)، فقال ابن أم مكتوم: “يارب ابتليتني فكيف أصنع؟ فنزلت: (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) (النساء:95) قال: أخبرنا ثابت بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: نزلت (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)، فقال عبدالله بن أم مكتوم: أي ربي أنزل عذري، أنزل عذري، فأنزل الله: (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ)، فجعلت بينهما.

فتأملوا كيف سطر له العذر في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ولكن أتراه قد تقاعس عن العمل لأجل دين الله؛ لا.. فوالله ما أن دخلت السنة الرابعة عشرة للهجرة حتى عقد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة تديل دولتهم وتزيل ملكهم وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فكتب إلى عماله يقول: “لا تدَعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا وجهتموه إليَّ والعَجَلَ العَجَلَ”، وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء أمير المؤمنين وتنهال على المدينة من كل حدبٍ وصوب، وكان في جملة هؤلاء المجاهدون عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه، وأمّر الفاروق رضي الله عنه على الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأوصاه وودعه، ولما بلغ الجيش القادسية، برز عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه من بين الصفوف لابساً درعه مستكملاً عدته وندب نفسه لحمل لواء المسلمين والحفاظ عليه أو الموت دونه, قال رضي الله عنه: “ادفعوا إليَّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين”، والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابثة، واحترب الفريقان حرباً لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلاً حتى انجلى اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين، ودالت دولة من أعظم الدول، وزال عرش من أعرق العروش، وهوت راية من رايات الوثنية، وارتفعت ورُفعت راية التوحيد، وسقط مئات من الشهداء وكان من بين هؤلاء الشهداء عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه، فقد وجد

صريعاً مضرجاً بدمائه قابضاً على راية المسلمين. (موقع قصة الإسلام).

أيها المشدوه في تيـه المعــاني      خفف الآهات دع عنك التواني

لا تبالي إن بغت كف الزمـانِ     واعتصم بالله ذا أسمى وأفضلْ

أنت تدري أيها الحـيران عنّـا      كيف فوق الشمس أزمانا حللنا

أيها المشـدود لا تيـأس فإنّـا       لبناء الأمة العصماء نعملْ

أيها المؤمن الغالي، لن يكون لك العز والفخار حتى تتمسك بهذا الدين الذي يفرض عليك نصرة إخوانك والشد على أيديهم وتأييدهم لنصرة الأقصى، الذي يصرخ ألماً من حقد الصهاينة عليه، وتضحي وتبذل لأجل رفعة الدين أو تهلك دونه.

فابذل يا أخي كل ما تملك من مواهب وطاقات لأجل مرضاة الله تبارك وتعالى, وسخر تلك الطاقات لتبلغ من حولك عما يحصل في أرض الرباط القدس, فالمعرفة تقود إلى التحرير, وإنك إن أرضيته سبحانه وسخرت ما وهبك إياه له، فإنه سيرضيك، فعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحْل، فقال: “يا معاذ بن جبل”، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: “يا معاذ بن جبل”، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: “يا معاذ بن جبل”، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: “هل تدري ما حق الله على العباد؟”، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً”، ثم سار

ساعة، ثم قال: “يا معاذ بن جبل”، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: “هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك”، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “ألا يعذبهم” (رواه مسلم).

وأنت حرٌ كريم.

كذلك أخرج الإسلام قومي      شباباً مخلصاً حـراً أمينـا

وعلمه الكرامة كيـف تبنى       فيأبى أن يقيـد أو يهونـا

شباب زللوا سبل المعـالي        وما عرفوا سوى الإسلام دينا

تعهدهـم فأنبتهـم نباتـاً           كريماً طاب في الدنيا غصونا

فارفعوا الرايات شباباً لأجل القدس والأقصى، تنصروه وتحرروه.

فاللهم لا تجعل ذنوبناً حاجزاً بيننا وبين العمل لنصرة دينك ومسرى نبيك.

اللهم آمين.. آمين.. آمين.

والله أكبر ولله الحمد

 

 

Exit mobile version