ما أعرفه عن الموت والشهادة

محمد ثابت

  محمد ثابت

 ما ارتقى شهيد إلا وتخيلته نفسي، فغبطتُه على نيل الشهادة، وعلمتُ أنه أفضل بمراحل عند الله مني، فإن كان شاباً أو فتى صغيراً تخيلتُه ابني، وفرحتُ وحزنتُ وتمثلت عميق ألم أهله، ولوعة الفقد في قلوبهم، وألم مشاهدة مكان نومه خالياً من دونه، وأدواته الشخصية التي لا تجد من بعده من يستخدمها، نعلاه اللذان يرتديهما صباحاً إلى دورة المياه، صوته طالباً من أخيه الانتهاء بسرعة، مكان فرشاة أسنانه، كتبه المدرسية أو الجامعية، نافذة كان يطل على أصدقائه منها قبل النزول، خطواته إلى المسجد، أنينه مع اهتراء حقوق الإنسان في مصر، دعاؤه إلى الله كي ينال الشهادة، مكانه الفارغ من طاولة الطعام أو ما يعرف في ريفنا والصعيد والفلاحين بـ”الطبلية”..

وما كانت الشهيدة امرأة إلا وتخيلتها زوجتي، وقد كانت لها تجربة مع الإصابة مريرة، وما تخيلت امرأة تستشهد حتى عايشتُ الحرمان من الأم في نفوس صغار يتضورون حرماناً من نسمة حنان كانوا ينعمون بها ليل نهار، وعانيتُ خيرة زوج بين ذكرى غالية لحبيبة راحلة، ومتطلبات العناية بأحياء صغار، والخوف من باهظ تكاليف “زوجة الأب”.

أما إن كانت الشهيدة فتاة فنظرتُ إلى عينيّ بناتي، وتمنيتُ للراحلة وافر المغفرة.

ما عرفت بأمر شهيد ولا شهيدة، صغيراً أو كهلاً، أو حتى شيخاً كبيراً، امرأة أو طفلة.. إلا وتخيلتُ أن الله تعالى غفر لهم جميعاً، أو ليس سبحانه هو الذي دعاهم إلى رحابه، أو ليسوا قد أصيبوا في مقتل على يد جنود فرعون وهامان الجدد؟!

وقد يقول قائل لي:

– الشهادة تلزمها نية، والصدق فيها ضرورة وإلا..

قال الأعرابي للرسول العظيم في الحديث الصحيح:

– اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم بعدنا أحداً!

فتبسم الرحمة المهداة وقال: “لقد ضيقت واسعاً يا أعرابي” (رواه البخاري)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

اختارهم الله على عينه وابتلاهم بمصيبة الموت وأبقانا.. فهل لنا أن نتناقش في مصيرهم لديهم؟

يقولون لك: ما نووا الشهادة.

سبحان الله، ألهذا الحد بلغنا عميق الانقسام في وطن كان يجمع شتاتنا؟ نهرول إلى الصلاة حين يهدينا الله، ونرثي لمن هم على المقاهي لا يشاركوننا ركيعات لله، فيما نحسبه ليلة القدر نرى “البلطجية” بسيوفهم يتعاركون فنتذكر جيداً معنى الاصطفاء، يعتب علينا النصارى في القطار أننا نرد يد ابننا الصغير عن طعامهم فنذوب حرجاً ونأمره أن يأكل كما يريدون.

لقي حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد “مشركاً” ليس على دين من الأساس، وإن كان مُحرّفاً، فما كان من الأخير إلا أن استل سيفه يريد قتله، فدافع سيدنا زيد عن نفسه بقوة، حتى إذا انهزم “المشرك” وظهر أنه مقتول قال:

– أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!

والأمر واضح أمام الصحابي الجليل، كان يقاتله منذ هنيهة ليقتله، فلما أيقن بالموت نطق بالشهادة، وهنا كان قرار الصحابي واضحاً إذ عاقبه بما هو أهل له، في وجهة نظره، رضي الله عنه.

والحديث في البخاري، فلما قابل الصحابي نبي الله، وأخبره القصة قال له: “أقتلته بعد أن نطق بالشهادة؟”، فقال الصحابي: قالها متعوذاً “لينجو من القتل” يا رسول الله! فقال الذي لا ينطق عن الهوى: “هلا شققت عن قلبه”!

هلا شققتم قلب شيماء الصباغ يا سادة، أو قلب سندس أبوبكر، أو قلب أصغر شهيد أظفره برقابنا؟!

وما ضير شهيد أو شهيدة لو لم تدينوا استشهاده أو لم يدن العلمانيون والليبراليون، ولماذا تنتظرون منهم إدانة؟ عفواً، من كلاب السكك.. الذين يرتعون في الدماء، مع الاعتذار للمقام، وعفواً ثانية أعز الله القارئ الكريم، ثم من “الكلاب” لأنها أكثر وفاء من جند “السيسي” من داخلية وجيش وأتباعهما، والصامتين عن الدماء أيّاً ما كانت، إن المشرك لم يصلِّ لله فرضاً، ولم يتسم باسم المسلمين، وما يزال رسول الله يكررها حتى تمني زيد بن ثابت بن حارثة ألا يكون قد أسلم قبل ذلك اليوم، فما بالكم بالمسلمين!

وإن ذهب الأقذار لا يؤبنون شهداءنا أهذا مسوغ لئلا نرحم من سال دمه ونشق عن صدره؟!

الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه!

لماذا لا نتفق على حرمة الدم ونترك أمر الشهداء لله لعله يعفو عن قتلانا في سبيله ثم الثورة، ويتولاهم برحمته بدلاً من أن نتهم الناس في نيّاتهم؟

قال الله تعالى لموسى عليه السلام لما توفي أخوه هارون:

“رحمتهم أحياء فكيف لا أرحمهم وهم لا حيلة لهم تحت التراب”، أو كما قال تعالى في الحديث القدسي.

عفواً هذا معتقدي الذي أرجو أن ألقى الله عليه وأن يغفر لي به، فسامحني إن لم أوافقك بالكلية فيه أو خالفتك.

 

 

 

 

Exit mobile version