ثقافة الرصيف

السفير د. عبدالله الأشعل

 

 

 

السفير د. عبدالله الأشعل

 

معايير التمييز بين التقدم والتخلف ترتد في خلاصتها إلى سيادة القانون الذي يصوغ الحضارة ويشكل المجتمع، ذلك أن القانون الصادر عن عقلاء الأمة المنتخبين من شعب واعٍ وبعد تفكير وتدبر توخياً للمصلحة العليا، ودون أثر للمصالح الشخصية، يتم تطبيقه من خلال جهاز تنفيذي على نفس المستوى، فإذا نشب نزاع حول تفسيره أو تطبيقه تولى الفصل فيه قضاء يتمتع بالكفاءة المهنية والاستقلال والشعور بخطورة وظيفة القاضي.

وقد خطر لي وأنا أتابع هذه القضية في مدينة نيويورك أن الرصيف وإشارات المرور ومعاملة ذوي الإعاقة هي من أهم علامات التقدم أو التخلف.

 فالرصيف أنشئ خصيصاً لكي يحترمه الناس المارة وأصحاب المحلات التي يمر عليها الرصيف، كما لاحظت أن الذي صمم هذا الرصيف راعى فيه حالات الإنسان بأعماره المختلفة، في صحته وفي مرضه، حيث تم توطئته عند نقطة العبور إلى رصيف آخر كما استوى تماماً بلا التواءات أو نتوءات ليسير فيه الأعمى دون دليل.

والأكثر من ذلك هو أن الدولة مسؤولة عن الحوادث التي يتسبب فيها تصميم الرصيف، أما أصحاب المحلات؛ فإن الرصيف بالنسبة لهم مكان مقدس يتم احترامه بكل الصور، فلا يمتد المحل ليحتل الرصيف أو جزءاً منه، ولا تلقى القمامة عليه، بل تتولى البلدية تنظيفه وتهيئته، والكل آمن مطمئن إلى سلامة التصميم وإلى أمن الرصيف، فتبين لي أن للرصيف ثقافة عند كافة المستخدمين له نابعة من سيادة القانون الذي يفصل بين أصحاب المحلات وبين المشاة وكذلك تقسيم الشارع.

فإشارة المرور مقدسة عند السائق والمشاة، كما أن للدرجات مكاناً محاذياً للرصيف في الشارع لا يجوز للمشاة أن يعتدوا عليه، كما لا يجوز لأصحاب الدراجات أن يخرجوا من مربع الدراجات، وأن يتم احترام إشارات المرور واتجاهات الشارع، وبذلك يأمن الجميع في الشارع على أنفسهم، وقد تأملت الناس في الشوارع، ووجدت أنهم يسيرون وفق قواعد رياضية، وظننت أنهم كائنات صناعية، ولكنني في بعض المناسبات أدركت أنهم كتل بشرية منضبطة يعمرها الرحمة والتضامن مع الضعيف عند اللزوم، فأدركت أن الدين لا علاقة له بالسلوك خاصة عندما قفزت المقارنة رغماً عنى بين ما رأيته وبين ما يعيشه المصريون، وكان السؤال الملح بأيهم نبدأ بالشعب أم بالحاكم؟ فوجدت الإجابة سريعاً وهي أن الحاكم يستطيع بإدارته الحكيمة في التخطيط والحاسمة في التطبيق أن يصوغ مجتمعاً فاضلاً حتى ينتج هذا المجتمع بعد ذلك حكاماً على نفس المستوى وعلى كل مستويات الإدارة.

وقد عجبت أن المصريين الذين قدر لهم أن يفلتوا من جحيم الحياة في مصر إلى نيويورك ليعملوا في أي مهنة لا يختلفون عن غيرهم في الدخول سريعاً على النظام الذي وضعته البلاد.

معنى ذلك أننا بحاجة إلى من يضع لنا نظاماً عادلاً ومنطقياً حتى يسوى بين الجميع احتراماً والالتزام به؛ لأن معظم ما رأيت في شوارع نيويورك من العالم الثالث، ولكنهم أمريكيون بالحضارة قبل الجنسية وفخورون بذلك، وقد حاولت تحقيق هذه النقطة مع عدد من أصول مختلفة؛ فوجدت أنهم معجبون بهذه الحياة القانونية العادلة المنصفة التي تليق بحياة الإنسان والتي تحفظ له كرامته وتوفر عليه مختلف الصعاب التي يعانيها في المجتمع المتخلف.

وعلى الرصيف تقف سيارات بها مولد كهربائي لكي تبيع السندوتشات المعروفة باسم “الجيرو” وهي رخيصة الثمن، ساخنة، مضمونة في نظافتها ولحومها، حقيقية لا جدال فيها والبائع يستخدم الكهرباء الخاصة به في الشارع، ويلتزم قواعد النظام وأماكن العمل وآداب التعامل مع الناس فلا تغير عليه البلدية ولا يسرق الكهرباء ولا ينقل أمراضاً معدية، ولذلك عجبت من تغافل أحد الأصدقاء في مصر لهذه الحقائق عندما كان يوصي بتعميم هذه التجربة في مصر، وهو الذي كتب من قبل قصيدة شعبية موحية عنوانها شهيد الفول الذي راح ضحية رجال البلدية الذين طاردوه وأخذوا أدواته عدة مرات ثم دهمته سيارة البلدية وهي تطارده، ويستحيل أن نعزل صورة صاحب العربة “الجيرو” في نيويورك عن البيئة التي يعمل فيها، والطريف أنني توقفت عند أحدهم فكان مصرياً، فما أن تعرف علي كمصري إلا وعادت إليه أسأل ما في  مصريته، فلما سألته كم ثمن السندوتش؟ قال باللهجة العامية المصرية: “اللي تجيبوه يا بيه”، فلما أعدت عليه السؤال طلب ثلاثة أضعاف الثمن الذي كتبه هو بنفسه، وهذه نقطة تحتاج تحليل علماء الاجتماع؛ إذ ظن هذا الشقي أننا معاً كمصريين خارج دائرة القانون الأمريكي، وتحكمنا الفوضى المصرية التي هربنا نحن معاً منها، ومن العبث أن يعود إلى أمريكيته بالطريقة المصرية، ولا أن يعود إلى مصريته بالطريقة الأمريكية، ولو أنه خشي أمام الحزم الذي أبديته أن تسحب رخصته وربما تنهي إقامته لما عاد إلى رشده الأمريكي.

 بقيت نقطة أخيرة في هذا السياق تتعلق بالتاكسي وأسعار المحلات العامة، فهم جميعاً لا يميزون بين الزبائن من كل الجنسيات، ولكنني هذه المرة وجدت مصرياً يعمل سائق تاكسي، فدفعه حنينه إلى مصر عندما رآني، فعرض أن يعفيني من الأجرة؛ أي أن يدفع نيابة عني؛ فأفهمته أن مروءته يجب ألا تمس جيبه، وإنما يبديها في حمل الحقائب معي، وفي خدمات تسهل الرحلة، وفي هذه الواقعة تمثلت مصريته الإيجابية في المروءة التي ترجمها ترجمة حرفية لولا أنني نبهته إلى ترجمتها الأمريكية.

من هذين المثالين اتضح أمامي المجتمع المصري في حديه الأدني والأعلى من الناحية الأخلاقية، ولكنه مجتمع يعيش في نظام، ولو وفرنا هذا النظام لكان المجتمع المصري يفوق المجتمع الأمريكي في خصائصه الشرقية والإيجابية، فهل يمكن أن نحدث نظاماً في مصر يضبط حياة المصرين إلى أن يتعودوه بعد عقود التسيب والإهمال من جانب قياداتهم؟!   

 

 

 

Exit mobile version