بكائية إلى روح شيماء الصباغ

“وكيف سكت أهلها حتى انتشرت واكتسحت حتى سرتْ كالنار في الهشيم لتستولي على ميدان التحرير في قلب العاصمة، التي نسأل الله أن تعود جميلة.. القاهرة”.

 

 “متى غزت السلعوة مصر؟!

“وكيف سكت أهلها حتى انتشرت واكتسحت حتى سرتْ كالنار في الهشيم لتستولي على ميدان التحرير في قلب العاصمة، التي نسأل الله أن تعود جميلة.. القاهرة”.

لم أكن أعرف شيماء الصباغ!

اعتراف يُقصر من هامتي ويعلي من هامتها..

وحتى الآن لا أعرف من اسم الحزب الذي تنتمي إليه إلا إنه اشتراكي ثوري والسلام.. ربما على طريقة الراحل “القذافي” في تسمية ليبيا بالاشتراكية العظمى، ولكن متى كانت الأسماء أو الأحزاب أو “تركيبتهما” هما من يصنعان الإنسان؟

هلتْ شيماء في رحاب حياتي في اللحظة الأخيرة من حياتها.

فيديو هالني واقشعر له جسدي ومدته نصف دقيقة وثانيتان، كنتُ أستعد للنوم في وقت متأخر من ليلة الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة المصرية، أمس السبت، والعقل مني لا يصدق أن ثورة ستريح مصر ستنطلق صباح الغد،    وشاهدتُ الفيديو..!

كنتُ قد هاتفتُ صديقاً في مصر منذ أيام أحدثه عن مرافعة “د. مرسي” في القفص، فك الله أسره وأسر كل معتقل وفرّج عنا وعنهم، وكنتُ أظن نفسي ممتلئاً بالأسى، فقال لي الرجل الذي عرفته لأيام ولمستُ الصدق والإخلاص فيه، وإن كان قد تسبب في مشكلة بسيطة لي في العمل ضُخمت عليَّ حتى خرجتُ منه، المهم قال لي كلمات لا أنساها:

– يا فلان.. حتى فترة  قليلة كان من يعاكس فتاة في مصر.. يخرج له سبعة أو ثمانية من الشباب القوي ليلقنوه علقة لا ينساها.. واليوم 56 فتاة تم اغتصابها في أقسام الشرطة، وهي الحالات الموثقة فقط، وما لم يوثق كثير وأنت تعرف مجتمعنا، و17 واحداً أقول له هذه القصة لأستنطق قلبه ضد الانقلاب فيقول لي: “أحسن”!

وأخذ الرجل يبكي بكاء مراً وهو في قمة العقد السادس من العمر.. فيما يقول:

– أنت بعيد حلّت رحمة الله بك.. هذا شعب جزء منه فسد يشرب من دم أخيه لأجل 1000 جنيه.

وجاءني مصداق كلمات أخي ممدوح، وليتني في حل من البوح ببقية اسمه، وحرمني المنام مشهد شيماء الصباغ.

آلمني زوج يصارع “الأوغاد” ليبقي روح زوجته على قيد الحياة بعد قتلهم لها بثوانٍ، وهي تجود بروحها الطاهرة، رفض الرجل أن يصدق فحملها بدمائها تغرق الوجه منها والعينين، سامحني يا رب أن تطلعت لوجه امرأة هي حورية من حوريات الجنة، اخترتها، يا كريم، إلى جوارك وأبقيتنا، ولا أقول: نبذتنا، وأعرف تماماً أنني أستحق الكلمة الأخيرة.

وهل اختياره تعالى يمكن لملبس أن يدل عليه أو مظهر أم جوهر؟

راعني زوج ملتاع لا يصدق أن امرأة عرفها.. وأحبها قلبه.. وعاشرها وأنجب منها، وملأت مصابيح بيته أنساً ولطفاً تلبي نداء الخالق وتدعه في هذه الحياة العفنة، والكلمة الأخيرة قليلة على حياتنا، راعني أن الرجل يضمها بقوة متذكراً أنها لا تزال هنا بإمكانه إسعافها، أما غزير وثقيل الدماء على الوجه وأسفل منه فلا أنساه.

ولكن ما راعني أكثر مشهد رجلينِ مسنينِ على بعد خطوات من الرجل الذي يحمل جسد زوجته الطاهر يمضيان، وكأنه يحمل قطة تلفظ أنفاسها، ولو أنه يحمل قطة لربما حزنا لأجلها، ثم ها هو يمضي فيمر بمقهى فيه من يلتهمون “الشيشة” فلا يتحرك ساكن لهم.

أصيبت زوجتي، أتم الله شفاءها، يوم 13 من أغسطس 2013م وحملتها في مثل هذا الموقف ملتاعاً، وأعرف هذا الشعور جيداً.. لكن الرصاص المنهمر يوم محاولة جمعة الغضب الثانية لم يمنع شاباً لديه قرابة عشرين عاماً من حماية ظهري.. بل إن دوي أزيزه عند أذني أخافني عليه فأنزلت زوجتي قبل أن أصل بها لمسجد مشهور قرب ميدان الجيزة فصرخ بي:

– لماذا؟

فلما قلت: أخاف عليك.. قال:

– وهل أوصلنا إلى هذا الحال غير خوف جيلكم؟!

افتقد زوج شيماء مثل هذا الشاب، بل إن مظاهر الحياة والامبالاة استمرت في ميدان التحرير، وصار العابرون ينظرون إليه، وهو لا يقوى على مواصلة السير بزوجته بوجه كالعجين لا يظهر تقى.. ولا يُبقي إيماناً في جوف صاحبه..

متى ظهرت السلعوة في بلدي؟ ومن سمح لها بالانتشار قرب شارع القصر العيني حيث تجتمع أغلب وزارته؟

والسلعوة لمن لا يعرفها حيوان مفترس بين الكلب والذئب لا يظهر إلا ليقتله الناس بقسوة متناهية.. إن هؤلاء ليسوا من المصريين بل إنهم من أتباع قائد الانقلاب المجرم السفاح يتخفون في ثيابنا وملامحنا.. أما الثوار الحقيقيون.. أهل مصر أهل الشهامة والنخوة والكرم وحماية الضعيف مهما كلف الأمر فأولئك الذين افتقدهم زوج شيماء.. وصديقي ممدوح.. وافتقدهم..

دمك يا شيماء ودم سندس أبو بكر، شهيدة الإسكندرية الجمعة الماضية، لعنة على “السيسي” وأتباعه وأيقونة لثورتنا المستمرة.. اللهم ارحمهما وجميع الثوار والشرفاء والمخلصين..

وما ضير شيماء الصباغ إن لم يعرفها مثلي وعرفها واصطفاها ربها؟!

 

 

Exit mobile version