تلك هي إحدى معجزات هذا الكتاب

د. عماد الدين خليل

 

 

 

د. عماد الدين خليل

في عشرات المواضع القرآنية تأكيد على البرّ بالآباء والأمهات، وهو في العديد من الآيات يجيء بعد التأكيد على وحدانية الله وعدم الإشراك به، والتي هي قاعدة هذا الدين وأساسه المتين.

{لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة:83)، {ّاوَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء:36)، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الأنعام:151)، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا “23” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”24″}(الإسراء)، {

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ “13” وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ”14″} (لقمان)، وهذا وحده يكفي للقول: إن القرآن الكريم منزَّل من عند الله، ويدحض فرية المفترين بأنه من صنع محمد “صلى الله عليه وسلم”؛ ذلك أن محمداً عاش يتيماً، ولد بعد أن كان أبوه عبدالله قد غُيِّب في التراب، ولم يكد يتفتح وعيه على الحياة حتى لحقته أمة آمنة بنت وهب، فأحرى – بالمعايير النفسية والاجتماعية – أن ينشأ وقد جفّت عواطفه إزاء الأبوة والأمومة، بل – وبالمعايير نفسها – قد ينقلب على الأب والأم، ومن ورائهما الكثير من الثوابت والمعطيات، كما ثبت لدى العديد ممن فقدوا آباءهم وأمهاتهم في مراحل الطفولة.

هذا التأكيد المتواصل على البرّ بالآباء والأمهات.. هذه اللمسات الحانية في التعامل معهم.. هذه الدعوة الصريحة بالإحسان إليهم.. وخفض جناح الذل من الرحمة لهم.. هذا الدعاء الصادر من القلب بأن يرحمهما الله سبحانه وتعالى جزاء سهرهما على تربية الأبناء.. ثم هذه التوصية الرقيقة الشفافة بألاّ تصدر عن الأبناء أي كلمة أو عبارة قد تجرح إحساسهما.. بما فيها كلمة «أُفّ»، وألا يقولوا لهما إلا قولاً كريماً. مَنْ مِن الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وهم بعد صغار لا يعون من الدنيا شيئاً، يمكن أن يمتلكوا هذا الحشد المدهش من صيغ التعامل العالي.. الرقيق.. الشفاف.. المترع بالنبل والوفاء والحساسية تجاه الآباء والأمهات؟! إنها – يقيناً – معطيات تخرج بالكلية عن خبرات أولئك الصغار، بعد أن يشبوا ويكبروا ويلامسوا وقائع الحياة، بل إنها معطيات تتناقض ابتداء مع التكوين النفسي والاجتماعي للطفل اليتيم الذي لم يتجرع حنان الأم ولا عطف الأب.

وتلك هي إحدى معجزات هذا الكتاب القادم من عند الله سبحانه وتعالى، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. الله جلّ في علاه.. خالق الإنسان ومصمم البيئة الأسرية التي ولد فيها، وراح ينمو ويشبّ عن الطوق، وهو بذلك أدرى بخلقه، وأعلم بطبيعة وأبعاد المشاعر الفيّاضة للآباء والأمهات تجاه أبنائهم، وضرورة أن يجيء موقف الأبناء موازياً لهذا العطاء الدافق، مكافئاً إياه محبةً وتقديراً واعتزازاً وشفقةً وعطفاً وإحساناً، وإلاّ فهو العقوق المرفوض والمنكر، والمناقض – ابتداءً – لطبائع الأشياء.. فماذا يقول المشككون والمستشرقون بهذا المثال القرآني المدهش عن «التصادي» الفعَّال بين الآباء والأمهات وبين أبنائهم؟ والذي يجيء في كتاب يتوهمون أنه من صنع محمد “صلى الله عليه وسلم”، ومحمد نشأ يتيماً بلا أب ولا أم؟ يذكرني هذا بالعديد من الاستنتاجات المضلّلة التي أدان بها أولئك المشككون والمستشرقون، ومن قبلهم الجاهليون ورجال الدين من اليهود والنصارى كتاب الله بأنه من صنع الإنسان، وقالوا فيما قالوا: إن تأكيد القرآن المتواصل على تعذيب الكفار بنار جهنم، إنما هو انعكاس للبيئة الصحراوية الملتهبة التي عاشها محمد “صلى الله عليه وسلم” وأكتوى بنارها، دون أن يلتفت هؤلاء مجرد التفاتة إلى أن في كتاب الله تعذيب بالزمهرير الذي هو نقيض الحرّ الشديد، وبعشرات الصيغ الأخرى التي تخرج عن كل ما ورد في قاموس الحرّ من مفردات، لن يتسع المجال لذكرها، ويكفي أن نحيل القارئ الجاد إليها في كتاب الله نفسه.

أما تناقضات الاستشراق الماركسي المقبور، وتلامذته من الشيوعيين العرب، فحدّث ولا حرج.. لقد فسّر بعضهم الحركة الإسلامية بأنها جاءت كإسناد للطبقة الارستقراطية التي تعرّضت للاهتزاز قبيل ظهور الإسلام، وذهب آخرون إلى أنه جاء ثورةً على هذه الطبقة وإسناداً للعبيد والكادحين، فيما يمثل إبحاراً بالاتجاه المعاكس تماماً للاستنتاج السابق.. وقس على هذه الترّهات عشرات الأمثال الضالة، المضلّلة، ومئاتها.

 

 

 

Exit mobile version