زلزال فرنسا وإعصار الإساءات

د. إبراهيم أبو محمد

د. إبراهيم أبو محمد

 

الأزمة نــوعان، عابرة، ومتــكررة، وإدارة الأزمات المتــكررة تــطرح عــلى مستوى الفكر السؤال البدهي للأزمة، لماذا..؟ وكيف..؟

وقــبل أن تــهدأ عــاصفة الــجرم المــسيء بــما سيتركه من آثار وتداعيات واستعمال وتوظـيف، جدير بـنا أن نـطرح عـلى أنفـسنا وعـلى من نعـيش معـهم في مجتــمع المهــجر ونــشاركهم الوطن والمواطــنة والوطنــية سؤال: الأزمة لماذا..؟ وكيف..؟

• وسؤال الأزمة يتصل مباشرة بعلاقة الشرق بالغرب، ورؤية الغرب للدين عموماً، وللإسلام عــلى وجه مخــصوص، وهو سؤال مــركب من تــساؤلات طرح بعــضها في استحياء وخــجل، وبعضها الآخر كان جريئاً وجسوراً في مناقشة تلك العلاقة، وكان في مقدمة ما طرح من تلك التساؤلات: لماذا يصرون على الإساءة إلينا في أعز ما نملك؟

• ألم يتحدث العالم عن ضرورة التعايش والحوار وقبول الآخر؟

• فلماذا يجرحون مشاعرنا ويطعنون في ديننا؟

• وهل هي – عـلى المـستوى الثـقافي – حربٌ صليبية جـديدة كـما قال قديماً “جورج بوش” يُستخدم فيها القلم بدلاً من المدفع، والصورة بدلاً من الطائرة، والكلمة بدلاً من الصاروخ، ويكون احتلال العقول والمشاعر بديلاً عن احتلال المدن والقرى وحرب الشوارع؟

• وربما كان من المناسب أن نجيب عن السؤال الأول فقط.. لماذا..؟ وأن نرجئ السؤال الثاني “وكيف..؟” لمقال آخر.

• والإجـابة الخـطأ عن تـلك الأسئلة تخـلق بيئة مواتـية للكراهـية والتعـصب، وربـما الـعدوان والعنف، ولذلك كان على العقلاء أن يهتموا بإجابة السؤال، وأن يتحرى الجميع في الإجابة عنه

 

المنهجـية والعلمـية والمـوضوعية بعـيداً عن كلـمات المجامـلة التي تـشكل في معالـجة الأزمة مجرد التخدير، لكنها لا تتناول أصل الداء ولا تتعرض له.

• ومن هنا تقتضى المنهجية العلمية في الإجابة عن تلك الأسئلة متناً وشرحاً، متناً يلخص ويــضغط ويختــصر ظواهر العــنف وأسبابه، وشرحاً يــستفيض ليكتــشف سر الإساءات ونماذجـها في طبيـعة العلاقة بـين الـشرق والـغرب، أو بـين ثـقافتين وحـضارتين التقـيا وتـشابكا وتعانقا وتشاكسا.

• ومن المــعروف أن الحــضارة المــادية الغربــية قد استفادت من التراث الثــقافي والعلــمي للحضارة الإسلامية، وبخاصة في الأندلس، وقد حاولت الحضارة المادية الغربية وهي في أوج قوتـها أن تهـضم وتذيب خـصائص ومقـومات الحـضارة الإسلامية، ولكنـها لم تـستطع، رغم أن الأخرى كانت قد فقدت دولتها وأبوتها السياسية، وتعيش حالة من التراجع والاستلاب، إلا أنها وبـرغم جراحـها فـقد تأبت واستعـصت واحتفـظت بخصائـصها ورفـضت الذوبان، وربـما كان شرح العلاقة أكبر من أن تـستوعبه مقـالة صحفية أو حتى كـتاب واحد؛ لأنـها محـصلة تراكمـية، ورصيد قرون من الاشتباكات والصراع الطويل.

• ولقد لاحظ الباحثون في أوروبا وأمريكا وكثير من البلدان الأخرى أن لدى الغرب كمراكز للــقرار منظــومة إعلامــية ترتــبط في أغلبــها بالهوى السيــاسي، وتتعــمد تــشويه الآخر المــسلم وتصويره على أنه الجحيم بعينه، وتحط من قدره، وتحاول إشاعة الخوف منه وتلصق به أبشع الاتهــامات، ولا تــكف عن الهــجوم علــيه، واستعداء الــشعوب ضده، وكــما يتــضاعف خوف المـسلمين عـلى دينـهم بـعد كل هـجوم، يـكون كذلك خوف الـغرب مـنه كلـما ظـهرت قدرة المـسلم عـلى التمـسك به وإصراره عـلى تـطبيقه والالتزام به والتـضحية من أجـله، ذلك بالإضافة إلى معـرفة دوائر البـحث هـناك بـقدرة الإسلام ذاته كمنـهج عـلى أن يـفرض نفـسه كـبديل حـضاري وكمنافس اقتصادي يتحدى بخطورة وجسارة إذا توافرت له البيئة الحاضنة.

• وفي أستراليا هيئات مـسؤولة عن حمـاية المجتـمع من الـحرائق كونت خبرتـها عن طـريق العلم والتجربة، وهذه الجهات لها دور كبير في حماية أستراليا من الحرائق، ومن مهامها أنها عـندما تعـلم باحتـمال ارتـفاع في درجات الـحرارة وهـبوب العـواصف تـصدر تعليماتـها للـناس بالامتــناع عن إشعال النــيران؛ لأنــها قد تتــسبب في حرائق ربــما تكــلف المجتــمع الــكثير من الــضحايا في الأرواح والممتلــكات، ومن ثم فلا يــجوز لــعابث متــهور أن يــسخر من تــلك التوجيهات ويعمد إلى إشعال النار وسط العواصف.

• المجتـمع هـنا له دور كبير في مـنع هذا الـعابث والـضرب عـلى يديه حتى لا يؤذي المجتـمع كله بانحرافه السلوكي.

• ومن المــعروف للــباحثين أن العــقائد بــصورة عــامة تــشكل في الــوجدان لدى أصحابها مناطق شديدة الحساسية وسريعة الاشتعال؛ لأنـها مغلفة بالعواطف، والعواطف كما يقولون قواصف وعواصف وأحياناً نواسف.

• ومن ثم فالعــقائد بــهذا التــوصيف تــشكل محمــيات طبيعــية لا يــجوز الاقتراب منــها أو اقتحامها على أصحابها وإلا حدث الحريق.

• وظـهور الـجرم المـسيء بـشقيه والذي شكل زلزالاً في فرنـسا له دلالة خـاصة لا تخطئـها عيون الباحث.

• فـشقه الأول كان عدواناً إرهابـياً صارخاً عـلى صحيفة أمعـنت في تعنتـها وأصرت عـلى التعدي والتجاوز والعدوان على عقيدة 1.6 مليار مسلم في العالم وفي أكثر من مرة رغم كل الاحتجاجات.

• والـشق الـثاني كـما قال فاعله “كوليـبالي” الذي قام باحتجاز الـرهائن أنه فـعل ذلك انتقـاماً لما تقوم به “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، ولما قامت به فرنسا في بلده الأصلي “بالى”.

• ومن الطبيعي أن يكون من حق فرنسا وطناً وحكومة أن تحمي نفسها من خطر الإرهاب الذي أشعل غضب كل الشعوب بهذا العدوان على “شارلي إبدو”.

• صحيفة “شارلي إبدو” التي حظيت بتأييد العالم بعد الحادث كانت قد تعودت من قبل على تجاهل كل العواصف وكل الغضب ففعلتها في السبعينيات حين سخرت من “شارل ديجول” بعد موته؛ فـهبَّ المجتـمع والـدولة معتـرضاً، فـطردت الـصحفي صاحب الـسخرية من عمـله، وعـرفت الصحيفة أن لحريتها سقفاً محدداً يجب ألا تتجاوزه وإلا..، وعلى أثر ذلك أغلقت أبوابها وبيعت بثـمن بـخس، ثم عادت للظـهور مرة أخرى في ثوب جـديد، وكررت التجـربة الـخاطئة مرة ثانـية فتعــرضت لنــجل “ساركوزي” وعــرضت بــأصوله اليهــودية فاتهمت بمــعاداة الــسامية، واعــتذرت وطردت الصحفي الذي فعل ذلك، وأدركت مرة أخرى أن لحريتها سقفاً محدداً يجب ألا تتجاوزه وإلا..

• غير أنها تجاهلت ذلك كله وأوغلت في التعدي والتجاوز والعدوان على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تعبأ بغضب 1.6 مليار مسلم، ونشرت رسومها المسيئة أكثر من مرة؛ بحجة حــرية التــعبير، ولــجأ بــعض الفرنــسيين إلى القــضاء ليمــنع الــصحيفة من استفزاز المــسلمين وإثارة الكراهـية، ولـكن القـضاء انتـصر للـصحيفة بذات الحـجة “حـرية التـعبير”، وكأن الـحوادث السابقة بـ”شارل ديجول”، وابن “ساركوزي” لم تكن من قبيل حرية التعبير!

• هـنا تـبدو الانتقائـية في التعـامل مع المـبدأ الـواحد بازدواجـية المـعايير مثيرة للـسخرية، ومستفزة للمشاعر، ومستهينة بعقل القارئ وذكائه حين تصب الزيت على النار في وقت ترتفع فـيه حرارة الغـضب، وتـشتد فـيه العـواصف بـحروب عبثـية تـأكل الأخـضر والـيابس، وتكـلف الدول مئات الآلاف من القتلى والضحايا في كل بقاع الأرض وفي المنطقة العربية بالذات.

• في مواجـهة ظاهرة العـنف والإرهاب التي وقـعت في فرنـسا اختلـطت فيـها دماء الـضحايا المـسلمين الفرنـسيين بدماء غيـرهم من الفرنـسيين، ولم يـفرق الإرهاب بـين مـسلم وغـير مـسلم، ومع ذلك تتكرر الأخطاء، ويتم التركيز على ديانة الجاني بينما الضحية لا يتحدث أحد عن دينه.

• في جرائم باريس قـتل الـشرطي أحـمد مـرابط، وهو مـسلم مخـلص لدينه ولقـيم فرنـسا ولم يـشفع له ديـنه، وقد كان القـاتل والمقـتول مـسلماً أيـضاً، فلـماذا يـتم التركيز عـلى ديـانة الـجاني بينـما يـغض الـطرف عن دين الـضحية وقد مات وهو يدافع عن حـرية التـعبير في صحيفة تهـين دينه ونبيه وثقافته، أليست هذه ازدواجية أخرى في المعايير تمارس عن إصرار وقصد؟!

• وهناك ضحية مسلم آخر داخل الصحيفة، وهو الجزائري مصطفى أوراد، ثم كان هناك العـامل المـسلم “لـسانا باتيلي” في المتـجر اليـهودي الذي قام بإخـفاء 6 من الـزبائن اليـهود في ثلاجة لحوم وحماهم من القتل وحفظ حياتهم وتواصل مع الشرطة عبر هاتفه المحمول، وكان دوره مهــماً في عملــية اقتــحام المتــجر، وبــسبب إنــسانيته لم يــمس هؤلاء اليــهود بأي أذى، والمفارقة أنه من مالي نفس البلد الذي ينحدر منه الخاطف “كوليبالي”.

• “لسانا” قال عن نفسه: إنه مسلم مؤمن ويصلي، والهجوم يؤلمه جداً، وعلاقته باليهود جيدة جداً، وهو حزين على مقتل زميله اليهودي “يوهن كوهن”!

• والـسؤال: لـماذا يتم التركيز على ديـانة الجاني ولا يـشار إلى ديـانة الضحايا؟ أليـست هذه ازدواجية في المعايير تشعر المسلم بأنه مستهدف لمجرد ديانته ولأنه مسلم؟

• ويـستمر الإصرار عـلى المعالـجة الـخاطئة في إطار ثلاثة مـسارات كلـها خـطأ، وتؤدي إلى مزيد من التعاطف مع الجناة ومزيد من إثارة الكراهية وإشعال الحريق.

• المـسار الأول: هو إصرار الـصحيفة عـلى إصدار 3 ملايين نـسخة من الـصور المـسيئة في تـحدٍّ صارخ لمـشاعر المـسلمين في الـعالم؛ الأمر الذي يـولد نـوعاً من التـعاطف والتـماس الـعذر للجـناة في جـنايتهم لدى كثير من شرائح الـشباب الذين هم بعـيدون عن الاستقطاب، كـما يـولد خيـبة الأمل لدى كل من يتطلـعون إلى الـسلام والأمن وحمـاية مكتـسبات التعـددية الحـضارية والثقافية والتعايش السلمي والعلاقات الإنسانية المحترمة بين شتى الأجناس.

• المـسار الـثاني: هو الحـشد الإعلامي الخـاضع والـموجه بالهوى السيـاسي؛ حـيث يحـشد للإدانة والتـظاهرات، ويستحـضر من ذاكـرته كل ما يثير الكراهـية ويـزيد من حـجم الغـضب في نــفوس شعوب الــغرب؛ لــتبرير هــجوم اليمــين المتعــصب ومــراكز الــقرار عــلى المــسلمين وعــلى الإسلام أرضاً وشعوباً وديناً وهوية، ويلاحظ هنا ازدواجية المعايير بين مواطن مسلم لا ذنب له تتـعرض مـساجده لأكثر من 50 حـالة اعـتداء، بينـما تـُستدعى قوات الجـيش لحمـاية المعـابد والمدارس اليهودية!

• أما المـسار الـثالث: فـهو الحـشد الأمـني عن طـريق الملاحـقات وسن تـرسانة جـديدة من الـقوانين تعـمل عـلى تقـوية الأقوى وهي أجـهزة الأمن والاستخبارات، وإضعاف الأضعف وهو المواطن في مواجهة الدولة.

• المــسارات الثلاثة تــصب كلــها وبــزخم شديد في صالح الإرهاب وتــساعده؛ ليتــحول من ظاهرة إلى أيديولوجـية، وتـحول فعـله وممـارسته من جريـمة إرهابـية سيئة الـسمعة إلى متـعة وشهرة وشهوة عـند ممـارسيه؛ لأنـه – في نظـرهم – يمكنـهم من الـثأر والانتـقام من عدو يـستبيح دينـهم وأرضهم، كـما ينـقل الإرهاب من بيئة مـحدودة إلى وباء عابر للـقارات يـضرب في كل مكان، وتكون النتيجة أن يتحول الإرهاب إلى وطن يحتضن ويُصَنِّعُ ويُصدِّر.

• الغريب أنه بعد عشرات السنين من المعاناة نتيجة التجربة يكرر البعض الآن نفس الخطأ، فهل نحن نريد القضاء على الإرهاب أم المساعدة في تجميعه ليتكاثر وينمو؟

• بقي السؤال: كيف..؟ كيف نواجه ونوجه؟ كيف نعرض ما لدينا؟ كيف نتمكن من القدرة على نقل الخصم من مربع التعصب والكراهية إلى مربع الحياد والمساندة والدعم؟

• كيف نفتح بصره وبصيرته على ما في هذا الدين من حقائق وعدل وحرية وكرامة ورحمة للعالمين؟ قيم كثيرة لدينا، يمكن أن يستفيد بها الآخرون، لكنها مجففة ومعلبة وتحتاج واقعاً تعيش فيه وتحيا لدينا أولاً حتى يرونها رأي العين كالعصارة الحية في الشجرة الخضراء، وكل كلام دون ذلك سيظل كلاماً لا واقع له، ولا دليل عليه إلا في العقل فقط؛ حيث تعيش الأفكار والتصورات والرؤى، والقيم العظيمة تظل مجرد أفكار في الذهن ما لم يكن لها تطبيق عملي في واقع الناس وحياتهم، وهذا هو التحدي الكبير أمام كل المسلمين وخاصة من في مجتمع المهجر، أن يعيش الإسلام فيهم، وأن يحيا في واقعهم، وألا يكتفوا بمجرد ادعاء الانتماء إليه.

 

Exit mobile version