عِشْ ودَعْ غيرَك يعيش

د. عبدالله الأشعل

الذي حدث في باريس ضد مجلة “شارلي إبدو” إرهاب صريح، والذين قاموا به إرهابيون، والحادث وأشباهه يستحق الإدانة، ولكن الإدانة والتظاهر ضد الإرهاب يفوت الفرصة على العقلاء لدراسة الظاهرة وليس القفز عليها بحالة هستيرية تزيد الإرهاب قوة ولا تقضي عليه، والدليل على ذلك أن هذا العالم الذي يتسابقون إلى رسمه هرباً من استحقاقاتهم الحقيقية هو خداع للنفس.

في هذه الحمى قال “نتنياهو” الذي يعمل منذ عقود على أن يدخل الإسلام والمسلمين بطبيعتهم وليس بسلوكهم إلى طائفة الإرهاب، فأصبح لكل من المتظاهرين جميعاً إرهابه الخاص.

فالفلسطينيون المطالبون بحقوقهم المشروعة من كيان غاصب أصبحوا إرهابيين، وأن قتلهم صار تقرباً إلى الله، كما صار حصار غزة مساهمة جدية في هذه الحملة، حتى لو تبرأت “حماس” من إخوانيتها أو حتى هجرت غزة أو تركت السلطة.

 والمعارضون في العالم العربي للحكم المستبد هم إرهابيون، ويتعين القضاء عليهم حتى لا يكون إلا صوت الحاكم المستبد الذي يزين حكمه بالطغيان وإبادة الشعب، ومع ذلك تظهر المنطقة العربية وكأنها دول فيها ما يشبه الدول، ولكنها لا تمتلك مقومات الدول؛ وأهمها القانون والعدل، فالولايات المتحدة تخطط مع الغرب لضرب الإسلام والمسلمين، وهي التي تستخدم الإسلام والمسلمين هذه المرة لكي يقضي بعضهم على بعض، ولا ينكر أحد من الباحثين الغربيين أن بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي قامت بمساندة أمريكية، وواشنطن هي التي جندتهم جميعاً في معاركها، وأهم معاركها الآن تبرير استغلالها للعالم العربي، وتبرير وحشية “إسرائيل” ضد كل الشعوب العربية، وتغذية عوامل التفتيت بوسائل متعددة، وأهمها دعم الحكام المستبدين؛ لأن الاستبداد هو بداية الخيط؛ فهو الذي يقهر الشعوب، ويدفعها إلى الجهل والفقر وتجميد العقل، وهو الذي يفتح المدارس والجامعات والمعاهد الدينية التي تسبح باسمه، وتملأ عقول الشباب بالفارغ من الدين؛ لأنه لو قدر لهذه الشعوب أن تفهم دينها فهماً صحيحاً بعيداً عن دهاقنة الإسلام ودجلهم؛ لما أمكن للحاكم المستبد أن يبقى في حكمه يوماً واحداً.

فالنموذج العربي في مقاومة الإرهاب الذي تسبب الحاكم في صناعته كالنموذج “الإسرائيلي” تماماً؛ يشعل المنطقة ويكشف النفاق السياسي، ولذلك ظهرت النظرية التي تقول: إن الحاكم كلما كان طاغياً؛ توثقت العلاقات حتى غير الظاهرة مع “إسرائيل”، فالقهر العربي و”الإسرائيلي” هما أهم أسباب الإرهاب والعمليات الانتحارية.

فجميع التنظيمات الإرهابية التي تعمل اليوم على تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى المسلمين تعمل في دول إسلامية، وبدعم دول إسلامية، منذ أن أصبح الإرهاب أداة في سياسات الدول المستبدة عندما يكون الدين مؤمماً والحاكم قد أصبح إلها.

النتيجة النهائية لهذه الحمى التي تستضيفها باريس بعد العمليات الإرهابية التي تعرضت لها مدينة النور هي جزء من مخطط لإجلاء المسلمين من الغرب؛ مما سيزيد الصراع، ويُوجِد أسباباً أخرى للعنف.

الحقيقة الثابتة هي أن حركة الشعوب وتلاقح الثقافات لن تتوقف بإغلاق الحدود أو إشعال النار ضد الإسلام والمسلمين، تلك النار الذي يتسابق المسلمون أيضاً في إشعالها؛ فيجب أن يظهر العقلاء ويشيرون إلى مصدر الداء ونلخصه في الحقائق الخمس الآتية:

أولاً: أن الإرهاب هو العنف الذي يسببه الظلم والقهر، كما يسببه فساد العقل وفساد الثقافة والفهم المغلوط للدين، ولا يكون الحل هو ما يردده البعض من فصل الدين عن الدولة؛ لأن الإسلام في الدول العربية يختلف تماماً عن المسيحية في الدول الأوروبية من حيث التاريخ ومكانة الدين ورجال الدين المسلمين الذين كان معظمهم في خدمة السلطان، وهم أهم أدوات النظام في التضليل والقهر للشعوب؛ لهذا السبب لابد من إعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية الرسمية بعلاج لا أظن أنه ممكن؛ وهو الفصل بين الضمير الديني للعلماء وبين السلطان.

الحقيقة الثانية: هي أن الإسلام بريء من معظم الذين يلتحفون به الذين أصبحوا عبئاً على الإسلام؛ ولذلك فإن الخراب لهم ولبلادهم والمجد للإسلام ولكلمة الله إلى قيام الساعة.

الحقيقة الثالثة: هي أن ألاعيب الغرب ضد الإسلام والمسلمين ومكائد اليهود كذلك لم ولن تنقطع؛ ولذلك على المسلمين أن يرتبوا بيتهم من الداخل حتى لا يكونوا طعاماً سائغاً للمؤامرات، ونقطة البداية هي أن يتقي الحاكم العربي ربه قبل شعبه؛ لأن التقوى هي أن يقي الإنسان نفسه من غضب الله، وليس بالمظاهر الفارغة الأخرى التي يظنون أنها تعطيهم سمت المؤمنين.

الحقيقة الرابعة: هي أن الغرب يطبق مبادئ الإسلام الصحيح؛ وهي العدل ومساءلة الحاكم وإنفاذ القانون على الجميع، ولكن الغرب يجرم في حق الإسلام والمسلمين عندما يدعم مستبديهم، وتفسح بنوكهم خزائنها لأموالهم، ويتسترون على فجورهم؛ ولذلك يتساءل البعض عن أسباب الإرهاب من مسلمين ضد الغرب.

الحقيقة الخامسة: هي أن الإجراءات الأمنية في حماية الآمنين مطلوبة، ولكن تحصين الدولة ضد العنف والإرهاب لا يكون إلا بالقانون والعدل، فما بالنا ونحن نرى هذه الحمى التي أقحم فيها إرهاب الدولة في “إسرائيل”، وإرهاب بعض الدول في العالم العربي.

إن إدانة الإرهاب أمر مطلوب، ولكن الأهم هو معالجة جذور الإرهاب بأمانة وتجرد، وليس تقديم المعارضين للنظم والشاكين من القهر والمتململين من الظلم إلى هذه الحمى، وإلا كان ذلك إيذاناً بانقضاض المجتمع على الدولة والعودة إلى الغاب، ونقطة البداية هي مسؤولية الحاكم في كل دولة.

كذلك لا يجوز أن يفهم من هذه الحمى تعطيل القانون أو إدانة الإسلام والمسلمين أو تبرير قهر “إسرائيل” للفلسطينيين؛ لأن هذا القهر، وعدم احترام القانون في العالم العربي، ودور بعض النخب الدينية والاجتماعية في تبرير الظلم، فضلاً عن الفهم الخاطئ للدين وتوظيفه؛ هي الأسباب المباشرة لأي إرهاب في أي دولة، خاصة وأن أوروبا مطالبة بالتخلي عن الحكام المستبدين في المنطقة بعد أن حققت العدل والرخاء في بلادها التي نتنفس فيها نسيم الحرية.

وأخيراً، رجاء إلى الدول الأوروبية بأن تؤكد أن حرية الإبداع لا يجوز لها أن تطعن المسلمين في رموزهم، خاصة وأن هذه الحرية لا تمتد إلى رموز غيرهم، وقد عرف الفراعنة فلسفة الحضارة “عش ودع غيرك يعيش” (Live and let live).

 

Exit mobile version