من الموصل بلا مراسلين!

د. سنان أحمد

أثارت رحلة الصحفي الألماني “يورغين تودنهوفر” إلى مدينة الموصل في هذه الظروف كثيراً من التساؤلات المحيرة؛ لما فيها من عناصر الإثارة والتشويق المفتعلين، وربما مدفوعة الأجر مسبقاً, وبالنسبة لصحفي مشهور ومحترف لم تكن معلوماته إلا خليطاً من الأكاذيب المفتعلة.

وأنا أكتب هذه السطور ليس من باب الانفعال كوني من أبنائها، ولكن بسبب بقائي في الموصل لمدة شهرين تقريباً بعد سقوطها، ومغادرتي بعدها لكردستان العراق، وبقائي قريباً من منطقة الحدث حيث الاتصال بالأهل والأصدقاء بكل السبل رغم صعوبة هذه الأيام!

إن الموصل ليست ضحية “داعش” فقط، وإنما ضحية كل المهاترات السياسية بعد عام 2003م، عندما وضع الأمريكيون العرب السُّنة في دائرة الاتهام، وسلطوا عليهم كافة لعناتهم والموصل بتاريخها العريق هي محط أنظار العرب السُّنة.

ورغم كل ما يقال, ففي هذه المحنة يجب أن نكون موضوعيين لأقصى حد, وأن “داعش” ليست مسألة “عرب سُنة”، أو ما إلى ذلك من تحليلات متهافتة, ولكنها أكبر ظاهرة عصرية تم التخطيط لها على مدار سنين عديدة وبذكاء ومكر كبيرين، ومن أهم أهدافها ضرب الإسلام باسم الإسلام، وإعادة رسم خريطة المنطقة بعد أن سرقت إيران النصر من الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق، وصار التمدد الروسي – الايراني نحو مياه المتوسط أمراً لا غبار عليه, فليس من المعقول أن تبني الولايات المتحدة أكبر سفارة في العالم في بلد يمتلك أكبر احتياطي للنفط في العالم ثم تتخلى عنه.

إن رحلة السيد “تودنهوفر” وتقاريره التي ملأت الدنيا ضجيجاً هي من باب ذر الرماد في العيون, وإن مشاهداته كانت سطحية إلى أبعد الحدود، وأخذت صيغة التضخيم والمبالغة حول تنظيم يسمى جزافاً بـ”تنظيم الدولة”، وهو بعيد بعد السماء عن الأرض عن مفهوم الدولة وكما سنرى.

فالمدينة التي يبلغ سكانها حوالي المليونين، ويمتد تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام، وكانت عاصمة للدولة الآشورية تعاني من حصار خانق من كل الجهات ناهيك عن الممارسات التعسفية التي تعصف بأهلها، وأهمها محاولة فرض الفكر الظاهري الذي صار القشرة لبيضة فاسدة!

ويقول السيد “تودنهوفر”: إن أول انطباع له أن الدولة الإسلامية أقوى بكثير مما نعتقد, والحقيقة أن قوة أي دولة لا تقاس بعدد مسلحيها وطريقة ذبحهم لمخالفيهم, وأما في حالة ما يسمى بتنظيم الدولة، فإن قوته جاءت من ضعف من كان يحمي المدينة وتشتتهم وانهزاميتهم وانشغالهم بجمع الرشى والابتزاز والسرقات, فتم استبدال شيطان أحمر بشيطان أسود وكانت الموصل أكبر ضحية.

فهذه الدولة التي يتغنى السيد “تودنهوفر” بقوتها لا تدفع راتباً لأحد، ولا يزال الموظفون في الموصل وغيرها من المناطق المنكوبة يتلقون رواتبهم من الحكومة المركزية في بغداد! رغم أن الدوائر الحكومية كلها مسدودة ولكنها الحقيقة.

ولحظة كتابة هذه السطور, فإن الموصل بلا كهرباء سوى ما ينتج عن المولدات المحلية الصغيرة, والماء إن وجد فلا تصفية ولا تعقيم، وكثير من المناطق تشرب من الآبار، والجامعة معطلة، وتم تحويل حدائقها مرتعاً للأغنام والأبقار المنهوبة، وخدمات الهاتف الجوال لا وجود لها، وأسعار الوقود أضعاف سعرها الأصلي.

أما ما تفعله هذه الدولة في هذا المجال؛ فهو فرض الغرامات وأخذ الإيجارات حتى من الباعة المتجولين، وفرض الإتاوات على الناس باسم “الزكاة”.

إنهم يستغلون كل المفردات الدينية في مآرب مادية.

ففي نهاية يوليو الماضي، اتخذوا من امتناع المسيحيين عن إعطاء ما سموه بالجزية حجة للاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم, وعندما نزحوا لخارج المدينة جردوهم من كل شيء, حتى إن بعضهم خرج بملابسه الداخلية، وأنا مستعد لإعطاء السيد “تودنهوفر” أسماء وعناوين هؤلاء؛ للتأكد من قوة هذه الدولة التي ترفع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً.

وقد أساؤوا كثيراً لسمعة الإسلام والمسلمين، وما فعلوه باليزيدية كان أدهى وأمر، وهو عمل مرسوم ومعد سلفاً لخلط الأوراق وإعطاء الحركة صبغة دينية, وأما قوله عن مقاتلي التنظيم بأنهم ينامون في ثكنات مبنية من ركام المنازل التي دمرها القصف, فهو هراء في هراء، وسفسطة مدفوعة الأجر.

فقد سيطروا على بيوت كل المسؤولين الهاربين، ومن ضمنهم بيت محافظ نينوى، وعلى بيوت المسيحيين وكل من خالفهم، واتخذوها مقرات لهم مع تجهيزها بمولدات كهربائية ضخمة!

كما تم الاستيلاء على معظم بيوت من نزح من المدينة؛ بحجة أنه “مرتد”، ونهبوا كل الممتلكات على أساس أنها “غنائم”، وهنالك سوق في غرب المدينة تسمى سوق “الغنائم”، وقد رأيت بأم عيني بأنهم يصرفون الأموال الطائلة وبالدولار في شراء مقتنياتهم.

فإذا احتالوا على السيد “تودنهوفر” بأخذه إلى أطلال البيوت المتهدمة والتي وضعوا فيها مقاتليهم, فيكون في منتهى السذاجة لأنه أصلاً لا يوجد قتال حول المدينة.

وأخوف ما تخافه أن تكون رحلة السيد “تودنهوفر” ضمن البرنامج الإعلامي – الهوليودي الذي صاحب التنظيم من صعود كبيرهم بطريقة مسرحية على منبر نور الدين زنكي إلى حفلات تقطيع الرؤوس.

وفي مقابلة تلفزيونية قال السيد “تودنهوفر”: “إن الدولة الإسلامية في العراق والشام تعمل جاهدة لتأسيس نفسها كدولة فاعلة، وستأتي قريباً إلى الغرب للتفاوض على مستوى مشترك للتعايش”، والغريب أن يأتي شخص من ألمانيا يعرف ما تعنيه كلمة دولة من دلائل ومعان ويربطه هذه العصابة التي تفننت بسرقة الناس, وإذلالهم وقتلهم، فذاك منتهى التهافت, ويرفعهم لمقام التفاوض مع أوروبا الديمقراطية!

وأخيراً أنصح السيد “تودنهوفر” بزيارة عشرات المواقع للجوامع والمراقد التي تم تفجيرها والتي يعود تاريخها لأكثر من ألف عام كجوامع النبي يونس، والنبي شيت، والنبي جرجيس، ومسجد الشيخ فتحي، وقضيب البان، ومرقد ابن الأثير، والتي سويت مع الأرض وشاهدتها بأم عيني, وليذهب ويرى الكنائس والأديرة المدمرة التي يعود تاريخها إلى أكثر من ستة عشر قرناً، والآثار الآشورية والأموية والعباسية حتى يعلم أنه لم يشاهد شيئاً، وأن أعداد المقاتلين لا يزداد مقارنة بأعداد اللصوص الذين يتفننون بسرقة الناس ونهب ممتلكاتهم.

إن كل المعطيات تدل على أن هذه الرحلة إلى الموصل هي من صنع القوى التي أدخلت “داعش” للموصل بغية أهداف لا تزال غامضة إلى يومنا هذا.

Exit mobile version