دروس الدبلوماسية النبوية في الواقع المعاصر

رحلة الحديبية معين لا ينضب من الدروس والعبر التي نحن أحوج ما نكون إليها في سياساتنا الحاضرة، فتلك الأحداث الكبرى لا تروى للتسلية، وإنما لاستخلاص العبر، وما بين ماضٍ غنيٍّ وحاضر مضطرب، فإننا بحاجة إلى أن نقرأ الماضي قراءة صحيحة بقصد الاستفادة والاعتبا

رحلة الحديبية معين لا ينضب من الدروس والعبر التي نحن أحوج ما نكون إليها في سياساتنا الحاضرة، فتلك الأحداث الكبرى لا تروى للتسلية، وإنما لاستخلاص العبر، وما بين ماضٍ غنيٍّ وحاضر مضطرب، فإننا بحاجة إلى أن نقرأ الماضي قراءة صحيحة بقصد الاستفادة والاعتبار وليس للنسخ والنقل مع اختلاف العصور والأزمان.

ما كتب عن الحديبية يملأ آلاف الصفحات، ولكن الأهم ما يستفاد منها، والكتابة عن رحلة الحديبية كما أسماها الأستاذ العقاد تشتمل على الرحلة من بدايتها حتى نهايتها، بما في ذلك وثيقة الصلح والمفاوضات حولها، ولقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام نموذجاً يقتدى حتى في هذه الرحلة المهمة في تاريخ الإسلام، فالمعلوم أن المسلمين في مكة اضطروا للهجرة إلى المدينة المنورة عندما ضيق كفار مكة عليهم، ففروا بدينهم الجديد وهم بعد قلة مستضعفة إلى رحاب أوسع وأنصار ومناصرين، وبعد أن تقرر الحج وتحويل القبلة إلى مكة، اعتزم الرسول الكريم وصحبه أن يذهبوا إلى الحج.

الحاج لا يكون حاملاً للسلاح، ولذلك، وهو الدرس الأول، أعلن صلى الله عليه وسلم ذلك بكل الطرق بأنه ذاهب للحج لا للقتال، وأبلغ مكة أنه لا يمكن أن يخاتل في مسائل العبادة، أي أنه لا يمكن أن يعلن نيته في الحج، بينما هو في الحقيقة يريد غزو مكة، فاتجه المسلمون وغيرهم إلى مكة، معتمرين غير مسلحين، ولكن كفار قريش منعوهم من أداء فريضة الحج، رغم أن البيت الحرام مقدس عند الجميع حتى قبل الإسلام، وكان عليه الصلاة والسلام يتوقع هذه الخطوة، ولكنه كان ينظر نظرة إستراتيجية، فالرحلة ليست نهاية المطاف، وأن الرسالة ستبلغ غايتها في مكة وما وراءها بكثير.

والدرس الثاني هو ما فصل فيه الأستاذ العقاد في دراسته لعبقرية محمد السياسية، وهو أن النبي عمد إلى دعوة المسلمين وغير المسلمين إلى الحج، فالحج ليس قاصراً على المسلمين، وليس قاصراً على قبيلة بذاتها؛ لأن القبائل توزعت بين الكفر والشرك والمسيحية واليهودية والإبراهيمية وغيرها من العقائد المنتشرة في الجزيرة على اتساعها، وبذلك يكون قاصدو الحج من المسلمين وغيرهم جبهة واحدة لحق الجميع في العبادة في مواجهة أصحاب السيادة علي البيت الحرام، وحتى لا تكون السيادة السياسية لمكة شاملة للسيادة الدينية، فحراس البيت عليهم ألا يحولوا بين البيت وضيوف رب البيت من كافة النحل والملل والعقائد، وهذا التفكير الاستراتيجي جعل موقف قريش معادياً بعد ذلك لجبهة عريضة؛ لأن قريش منعت الحجاج جميعاً ولم تميز المسلمين عن غيرهم، مما أربك قريش وغيرها من القبائل واختلفوا حول رد الفعل الواجب على قدوم الحجيج.

أما الدرس الثالث، فهو المرونة الفائقة التي أبداها النبي مع سهيل بن عمرو مفاوض الكفار، فسهيل يمثل صاحب السيادة على البيت الحرام، والرسول الكريم يمثل ضيوف الرحمن، هذه المرونة الفائقة التي أبداها الرسول الكريم مع سهيل هي التي جعلت أصحابه يضيقون بهذا الاتفاق، وينكرون الطريقة التي تم التفاوض بها عليه، وكادت الحادثة أن تُحدث شقاً بين كبار الصحابة وتمزق وحدة المسلمين في معسكرهم، وقد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بأنهم جاؤوا إلى مكة حجاجاً لا غزاة؛ ولذلك أعلنوا منذ البداية أنهم بلا سلاح ولا يخشون عدوان مكة عليهم لثقتهم في نبل أهلها ونخوتهم التي تأبى عليهم هذا العمل الوضيع.

فهل المسافة الشاسعة بين موقف النبي وموقف أصحابه هي المسافة بين صاحب الوحي والتبصر بالمستقبل وبين التقديرات البشرية مهما كانت عبقريتها، أم يا ترى هو ذلك الفارق بين درجات الإيمان والثقة في الله بين النبي وأصحابه؟ بل نشير إلى بيعة الشجرة التي جدد الصحابة فيها الحب والثقة بصاحب الرسالة، ثم بشروا بآية من الله قبل حدوثها بعامين، وقد يقول قائل: إن الطابع النبوي كان نوراً اهتُدي به صاحب الرسالة؛ مما يضع سلوكه فوق المستوى العادي للبشر، هذا الافتراض يقودنا لتدبر المناسبة إلى افتراض آخر؛ وهي ماذا لو لم يكن الرسول قائد الرحلة وقد فاجأتهم قريش فاستقبلتهم استقبال المحاربين؟ فإن أبا بكر كان مرشحاً للتعامل مع قريش وهو بعيد عن قائده لا يملك تعليمات فورية في هذا الموقف الحرج، وهل كان موقف أبي بكر الرصين الواثق المماثل لموقفه من خبر الإسراء والمعراج على خلاف موقف عمر الذي غلبه إيمانه على شبهة الشك في الرسالة لكي يعطي مؤشراً لما استجد يوم السقيفة فبايع الصحابة أبا بكر، إضافة إلى مؤشرات التوجيه النبوي في هذا الاتجاه؟

فهل ما أسلفنا بحاجة إلى استخلاص الدروس على سبيل الإيجاز أم أن العرض قد يوحي بحسب المواقف المتغيرة بدروس أخرى؟ فلا نصادر على حق القارئين في الاستخلاص أو أن نحصر فكرهم في سياق معين.

وختاماً؛ أكان الوحي أم المهارة السياسية هي التي فسرت الدبلوماسية النبوية؟ فليحذر الذين يعلون من القدرات البشرية للرسول لينكروا عليه شرف الرسالة، وكذلك فليحذر الذين ينسبون كل شيء للرسالة مكراً من عند أنفسهم ليجعلوا التكليف مستحيلاً على البشر.. فكلا الفريقين ضل سعيهم وطاشت سهامهم في العالمين.

Exit mobile version