دعوة للتوزيع العادل للزمن

يبدو أننا في عصور انسحابنا الحضاري ضيّعنا الإصغاء جيداً لمطالب المعادلات القرآنية؛ فضعنا

يبدو أننا في عصور انسحابنا الحضاري ضيّعنا الإصغاء جيداً لمطالب المعادلات القرآنية؛ فضعنا، فلو أننا انتبهنا جيداً لمنطوق هذه الآية الكريمة؛ لعرفنا كيف نوظف الزمن في تلبية عادلة للمطالب الضرورية جميعاً.. حيث يقول تعالى “إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”20”}(المزمل)، هذه هي إحدى التعاليم القرآنية التي، على وضوحها، وتفصيلها، لم ينتبه إليها الكثير من المسلمين، فرموا بثقلهم باتجاه التلاوة والعبادة، تاركين مطالب الجهاد والعمل، أو استهلكوا أوقاتهم وأنفسهم في العمل مهملين أمر العبادة والجهاد، بل إن بعضهم نسي حتى متابعة ضروراته الصحية منغمراً في العبادة أو العمل، والآية الكريمة تتطلب ضرورة التوزيع العادل للزمن على هذه المطالب جميعاً، فلا ينصرف كلّه لواحدة منها تاركاً الأخريات معلقة سائبة.

فلو أننا انتبهنا جيداً لمنطوق هذه الآية الكريمة؛ لعرفنا كيف نوظف الزمن في تلبية عادلة للمطالب الضرورية جميعاً، فنتلو حيث تتحتم التلاوة، ونعمل حيث يتطلب العمل، ونجاهد حيث يتوجب الجهاد، ونعرف كيف نقسّم ساعات الليل والنهار تقسيماً عادلاً يقود إلى تغطية متوازنة للمطالب جميعاً، فماذا لو عكف المسلم على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار؟ عزل نفسه عن الدنيا، وتفرّغ للتلاوة من أجل تحقيق أكبر قدر من الختمات القرآنية في الشهر أو الأسبوع، دون أن ينعكس ذلك على سلوكه، وفاعليته، وأدائه في ميادين الحياة كافة: الدعوية، والسلوكية، والثقافية، والجهادية؟

هل تكفي ثلاثون ختمة في الشهر إن لم تحوّل ذلك الإنسان إلى «قرآن يمشي على الأرض»، حيث يكون التحقّق الموزون بمطالب الخطاب القرآني؟ وهل يتحقق ذلك إن لم يُعمِل المسلم عقله وقلبه ووجدانه وهو يتلو آيات الله من أجل أن يتشرّبها فتصير جزءاً من ثقافته وسلوكه؟ وماذا لو عكف المسلم الساعات الطوال على تلاوة القرآن، تاركاً مطالب العمل اليومي وضروراته، من أجل تلبية حاجاته الأساسية، وإضافة لبنات في بناء المجتمع الإسلامي وصيرورته؟ وماذا لو عكف المسلم على تلاوة القرآن، رافضاً الإصغاء إلى نداء الجهاد حيثما توجّب الجهاد لمجابهة الخصوم الذين يريدون كيداً بهذا الدين، والذين لن يروعهم عن المضي في عداوتهم إلاّ الجهاد؟

وماذا لو عكف المسلم على تلاوة القرآن، غير ملتفتٍ إلى ما يحيق بجسده من أمراض وأوجاع قد تزداد بإهمال علاجها شراسةً وعنفاً، وقد تقود صاحبها إلى الدمار؟ 

إن القرآن الكريم ينبّه إلى ضرورة التوزيع العادل للزمن، أو توظيفه بشكل أدق، من أجل تغطية المطالب الأساسية للإنسان المسلم الذي يتحتم أن تكون شخصيته حركية فاعلة في الاتجاهات كافة: يتلو ويعمل ويدعو ويجاهد ويرّبي، ويعنى بسويته الصحية؛ من أجل التحقق بهذا كله، فلو أننا عدنا إلى كتب التراجم، التي تمثل أكثر المصنفات تأليفاً في تاريخنا الفكري والثقافي، وهي تترجم لحشود من المسلمين والمسلمات، عبر فترات زمنية متطاولة؛ فإننا سنقع على مئات بل آلاف من النماذج البشرية ممن عرفوا كيف يستجيبون لمطالب الآية المذكورة، فيسعون إلى توظيف أعمارهم بالشكل العادل لتلبية المطالب الضرورية كافة، فإذا بهم يعكفون على التلاوة الساعات الطوال، لكنهم لم ينسوا أن يخصصوا ساعات أخرى للعمل، أو الجهاد، أو القراءة، أو التصنيف، أو تلبية المطالب الأسرية والشخصية وحتى الصحية، وهم بتصرفهم هذا أعانوا على تغذية الفعل الحضاري الإسلامي بالمزيد من المنجزات، ومكنوا الحضارة الإسلامية من أن تنهض قائمة، وتستوي على سوقها، وتتفوق على كل الحضارات الأخرى، ويوم أنْ مال الميزان، وفقد المسلمون حاسّة توظيف الزمن وتوزيع مساحاته بالشكل العادل على كل الفاعليات الضرورية؛ بدأ منحنى الإنجاز الحضاري الإسلامي بالانحدار، وراح يتزايد مع الأيام حتى بلغنا الوضع الذي لا تحسدنا عليه أمة من الأمم، بينما في الطرف الآخر، راح الغربيون يتسابقون في توظيف الزمن، وفي الاستجابة المتوازنة لمطالب الحياة الضرورية؛ فتفوقوا وأمسكوا بنا من رقابنا.

ومرةً أخرى، فإن القرآن الكريم يطرح جملة من المعادلات التي تجيء بمثابة تعاليم غاية في الأهمية والتي يشكل تنفيذها في واقع الحياة، ضرورة من الضرورات، إذا أردنا – بالفعل – أن يكون لنا مكان في خرائط العالم.

Exit mobile version