الناس والإنصاف

الإنصاف من أحب الأخلاق، ومن أعزها، من أحبها؛ لأنك تشعر بلذته حين ينصفك الناس، ومن أعزها؛ لأنك تصادف مائة كريم، ومائة صادق، ومائة شجاع، ولا تكاد تصادف منصفاً واحداً!

الإنصاف من أحب الأخلاق، ومن أعزها، من أحبها؛ لأنك تشعر بلذته حين ينصفك الناس، ومن أعزها؛ لأنك تصادف مائة كريم، ومائة صادق، ومائة شجاع، ولا تكاد تصادف منصفاً واحداً!

أُنشِد في مجلس عليَّ:

فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه      إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

كأن الثريا عُلِّقت بجبينه                 وفي خَدِّه الشِّعرى وفي الآخر البدر

فقال: هذا طلحة بن عبيدالله, وكان السيف ليلتئذ مجرداً بينهما.

فكم مرة رأيت إنصافاً كهذا؟!

عز الإنصاف في الناس؛ لأنه خُلق مركبٌّ لا يصل إليه المرء حتى ينقي نفسه من الحسد، والكبر، واتباع الهوى، والفجور في الخصومة، بينما بقية الصفات بسيطة ليس لها لوازم تسبقها؛ فيمكن أن تجد شجاعاً سيئ الخلق، وكريماً فاسقاً، وصدوقاً بخيلاً، لكنك لا تكاد تجد منصفاً متكبراً، أو حسوداً، ولذلك صار الإنصاف نادراً ، حتى يمكن القول: إن المرء لو ترك من طفولته بدون تدخل من حوله لتأديبه، لأمكن أن يتخلق بالصدق، أو بالشجاعة، أو بغيرها من الخصال، لكن يبعد أن يكون منصفاً.

والسؤال هنا: هل يمكن أن يرقي أحدنا نفسه ليصل إلى مرتبة الإنصاف؟

الجواب: نعم، لكن شريطة أن يراعي حين يمارسه عدم التعامل بأسلوب المبايعة؛ بمعنى: أنصفك، وأنتظرك أن تنصفني، فإذا فعل ذلك صد نفسه عن الإنصاف؛ لأن الناس بطبيعتهم لا يميلون للإنصاف؛ فهم لا يعترفون بالفضل لغيرهم، يستقلون ما يأخذون، ويستكثرون ما يعطون، يهون عليهم الطلب، ويثقل عليهم الشكر؛ ومن هذه طباعه يصعب عليه أن ينصف!

حكى “ديل كارنيجي” عن محام أنه أنقذ 78 شخصاً من عقوبة القتل، فكم يا ترى شكره منهم؟

لا أحد!

وَزَهَّدَنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ صَنَعْتُهُ         إِلَى النَّاسِ مَا جَرَّبْتُ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ

يلزم من أراد اكتساب خلق الإنصاف توطين نفسه أن ينصف ولا ينتظر أن يُنصَف.

وأن يعالج نفسه معالجة الحديد؛ فطريق الإنصاف يمر بهدر حظ النفس، ومجانبة الهوى، والتخلص من العجب، والكبر، والحسد.

المشكلة أن أكثرنا لا يلاحظ عدم إنصافه؛ وبالتالي لا يهتم بأطر نفسه عليه؛ فنحن آلياً نرى أخطاء خصومنا في أي نزاع مكبرة، وتختفي بالمقابل أخطاؤنا أو تظهر أقل من حجمها بكثير؛ يحدث ذلك أحياناً بدون تعمد؛ فالنفس بطبيعتها ليست منطقية.

ولذلك من أراد الإنصاف لزمه تعويد نفسه البحث في كل نزاع عن خطئه قبل خطأ غيره، والتماس العذر للآخرين كما يلتمسه لنفسه، ورؤية حسنات خصمه كما يرى سيئاته، وقول كلمة الحق المرة قبل كلمة الحق الحلوة.

سئل إمام الحديث علي بن المديني عن أبيه (مرتبته في الحفظ)؛ فقال: “اسألوا غيري”، فقالوا: سألناك، فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: “هذا الدين؛ أبي ضعيف”!

ولست بهذا أدعو إلى أن يكون المرء ساذجاً يُمكن استغفاله، لكن أن تكون نظرته إلى الأمور أكثر توازناً، بحيث يمكنه التنقل بين رؤيته هو للأمر، ورؤية مقابله؛ وبالتالي تقييم أي موقف بشكل صحيح.

وبما أننا في زمن كثر الأدعياء فيه؛ فهناك علامات تميز المنصف من مدعي الإنصاف؛ أهمها أنك إذا قلبت كلامه عليه قبله؛ فإذا طالبك باحترامه، فقلبت كلامه عليه وطالبته باحترامك فعل، وإذا طالبك بألا تجامل من تحب إذا أخطأ، فقلبت كلامه عليه فعل.

ومن يبحث عن هذه العلامة في الناس سيجد أن الأغلبية حتى في النخب، لا تقبل (مجرد قبول) أن يقلب كلامها عليها!

وإذا أردت أن تعرف مدى صواب منهجك أنت في التعامل مع الآخرين؛ فاعرضه على الإنصاف؛ فمن علامات أن كلامك أو فعلك خاطئ أنك لا ترضى أن يستخدمه الآخرون معك، ومن علامات أن مبادئك في التعامل خاطئة أنك لا ترضى أن يطبقها الآخرون في تعاملهم معك.

إذا اتفقنا على ما سبق ونظرنا إلى الواقع سنكتشف أن كثيراً ممن حولنا ممن يملكون القوة المادية لتنفيذ قراراتهم، يصدرون القرار لمصلحة ما، ثم يلبسونه ثوب المبادئ ليخدعوا الناس أو ليخدعوا أنفسهم.

فالمدير الذي يوجه مساءلة لموظفه لأنه تأخر، يجب أن يوجه لنفسه نفس المساءلة حين يتأخر.

والأب الذي يعاقب ابنه لأنه دخن، يجب ألا يكون مدخناً.

والوزير الذي يفرض على الناس سلسلة من الإجراءات لدخول المستشفى يجب أن يكون أول من يلتزم بها حين يريد الدخول للمستشفى، هذا على افتراض أنه يتعالج في نفس النوع من المستشفيات.

والمراجع الذي يتذمر من أسلوب موظفي بعض الدوائر في التعامل معه، يجب أن يرى تعبيرات وجهه في المرآة حين يكون على مكتبه يتعامل مع المراجعين.

المضحك أن بعض المستشفيات تلزم المريض الذي لديه عملية ولو كانت إزالة لوزتين بالتخلي عن كل ملابسه ولبس ثوب خاص بحجة أن ملابسه قد لا تكون خالية من الجراثيم، بينما تترك الطبيب يجري العملية دون أن يغير ملابسه الداخلية!

وبعض المعلمين يرفض استخدام الضرب مع ابنه بينما هو يستخدمه في التعامل مع أبناء الآخرين!

وهذه مجرد نماذج عابرة تمثل تبسيطاً للموضوع ومع ذلك ينتهكه الكثيرون، مع أن المفترض أن نرتفع في مطلبنا ليكون الإنصاف في أن يوضح صاحب القرار مستنده القيمي في قراره، ويلتزم ليس بعدم انتهاك القرار فقط، بل بعدم انتهاك المبدأ الذي بنى قراره عليه.

فالوالد الذي يعاقب ابنه لأنه دخن، يجب أن يبين مستنده القيمي لمنع التدخين، ثم يلتزم هو بعدم انتهاكه وليس فقط بعدم التدخين.

ورجل المرور الذي يعاقب سائقاً لأنه قطع إشارة حمراء، لابد أن يبين مستنده القيمي في ذلك، كأن يقول: لأن ذلك إخلال بالنظام، ويلتزم هو بالامتناع عن كل ما فيه إخلال بالنظام حتى لو لم يكن قطع إشارة.

المفارقة أن المخالفة تقع في الصورة الضيقة في كثير من الأحيان، فالأب يمنع ابنه من التدخين ويدخن.

والطبيب يحرم المريض من ملابسه الداخلية في غرفة العمليات، ويدخل هو بها.

ورجل المرور يعاقب المواطن على قطع إشارة المرور ويقطعها!

ثم يدعي الجميع أنه منصف، وأنه يسير وفق مبادئ!

Exit mobile version