هل هم مؤهلون لحمل نعوشهم؟

في ساعة متأخرة من الليل تتم إعادة “تأهيل” الديكور الخاص بأستوديو القناة الفضائية الأكثر مشاهدة في بلد الثورة المتأزمة، يدخل المذيع الشاب متأنقاً

“هوجة المواجهات الشرسة أفضل مناخ لنمو زعامات شاملة ضوئية”.

في ساعة متأخرة من الليل تتم إعادة “تأهيل” الديكور الخاص بأستوديو القناة الفضائية الأكثر مشاهدة في بلد الثورة المتأزمة، يدخل المذيع الشاب متأنقاً، بذلة سوداء ناصعة تتناغم مع لون بشرته البيضاء، ويبدو الحذاء أكثر من لامع، فيما عيناه تتابعان الأضواء المنتشر وسط لون السقف الأحمر الفاتح، ثم يتأفف متأكداً من تمام وجود المصورين، يهمس في السماعة الداخلية الموصلة إلى “الكنترول”:

– يا عم المخرج، هناك لمبة هنا لا تعمل بكفاءة؛ ستجعل وجهي معتماً، عيب الديكور، هل أحضر “أمي” لكي تعدلها إذن؟ ثم السيد “المعد” لم يكتب الكلمات الساخنة اللازمة للأحداث الخطيرة.. قدراته.. سأتصرف..

جاء من البيت (المؤقت في الغربة) وهو يشتعل تعجلاً، تم إلقاء القبض على أكثر من ثلاثين فتاة من إحدى الجامعات الكبرى بالعاصمة، تم التحرش بهن في الشارع إلى ما قبل الاغتصاب بمليمترات، المذيع غير المتخصص قبله قال: إننا لم نعد رجالاً “هكذا”، ويجب أن يقول كلاماً أكثر “شجاعة”، يخشى ألا يستطيع، هناك قامة كبرى في عالم التمثيل احترف “التوك شو” وموعده بعده، إن قال: ما هو أفضل منه، فقد تم تحويله إلى “شطيرة” بين الاثنين، لم ينم يراجع أكثر الكلمات حدة التي يمكن أن تذاع على الشاشة..

(10، 9، 8، 7،… 3، 2، هوااااا).

– لا أستطيع أن أقول: أهلاً بكم، ولا أعزائي المشاهدين، ولا حتى مساء الخير.. فمن أين يأتي الخير؟ نحن صرنا نعاجاً، بل إن النعاج أفضل منا، خلقها الله للذبح، فيما كرمنا، فلم نعد أهلاً للتكريم، أسامة رئيس التحرير، ونبيل المخرج يتحدثان في أذني، ها هي السماعة الداخلية ألقيها على البذلة التي لم يعد لها لزوم، أي هدوء تريدانه.. والله لم أستطع أن أنام بالليل، لو أن البنت التي في الصورة، نعم هذه التي على الشاشة، (بتهكم) الحمد لله إنهم لم ينتقموا مني بعدم عرضها، لو أن هذه أختك يا أسامة أو ابنتك يا نبيل، وأنت رجل كبير السن أو كنت لتقول لي: اهدأ..؟ تباً للسلمية التي جعلتنا هباء منثوراً، اللعنة على قيادات ساقت نفسها إلى السجون، وأبناءها إلى المقابر وتركتنا في هذا “المنزلق التاريخي”، فني الإضاءة يشير لي كي أركب “الإربيز” لن تعود السماعة الداخلية إلى مكانها، ولو جاء صاحب القناة، ماذا سيقول التاريخ عني إن صمتُّ الآن؟ اخرجوا إلى الشوارع لتغسلوا هذا العار عنكم، موتوا إن لم تسعكم الحياة، لعلكم تلاحظون معي صوت “زنة” هل أحد على الخط؟ فأنا لا أستطيع إعادة السماعة إلى أذني.

– نعم (………….) أنتم اتصلتم بي الآن؟

– آسف يا سيدي، لا أستطيع التواصل مع الأستوديو من فرط غضبي من سلبيتكم!

– عفواً.. لسنا سلبيين.. إننا فقط نعمل عقولنا.. ولا نريد لأحد أن يسوق بلادنا إلى الهلاك الشامل.. ونفكر في سبل رد مبتكرة..

– أما تزالون تفكرون، وقد “حملت” البنات في السجون سفاحاً، لو كانت ابنتك هل كنت لتفكر؟!

– اسمح لي أن أقول وجهة نظري ثم ناقشني بلا مقاطعة.. إن هذا النظام لا يريد إلا جرنا إلى المهالك.. ليثبت صحة نظريته منذ عام ونصف العام، من أنه كان يحارب الإرهاب المحتمل وقد صار واقعياً.. ويجب أن نفوت الـ..

– أعطيتك الفرصة كاملة وقلت رأيك.. شكراً.. مع السلامة..

كاميرا 2 انظر لي..

عزيزي المشاهد.. أيا كل فتاة في أي جامعة في ربوع بلدنا العزيز الغالي الذي (أجبرنا على مغادرته والعيش داخل الأستوديوهات المكيفة بعيداً عن شرف النزول في حر الصيف وقيظ الشتاء للدفاع عنه، ونيل شرف استشهاد الزوجة النكدية.. أقصد الغبية.. اخفضوا من صوتكم في الأستوديو لذلك ألقي السماعة فتعلون من أصواتكم أكثر.. أقصد الغالية، والأب الحاني، والابن الذي لم يبلغ السابعة، لقد أجبرونا على “الهرب” فهنيئاً لكم البقاء.. واستنشاق عبير وطن هواؤه الآن دم.. يا كل فتاة، موتي ولا تتركيهم يلقون القبض عليك، أنت فتاة عاقلة وتعرفين كيف تضحين بالحياة من أجل شرفنا وشرف الوطن إن جاء مغتصب لك.. فلا تتركيه يمضي بخير.. اقتليه، وإن كان قوياً حاولي، إن لم تستطيعي قاومي، يا “ستي” اجعليه يقتلك.. ولا تعيشي بذلك العار.. تباً للأوغاد.. ما عادت الحياة تحتمل وجودنا ووجودكم.. والقادة لدينا يغطون في السبات العميق.. إنني أكاد أفقد القدرة على استمرار الحياة، وما أدري ماذا سيقول الزميل الفاضل الذي سيدخل بعدي إلى هنا، أو لم تؤمنوا بعد.. انتهى عهد الكلام يا سادة.. هذا زمان الخرس.. ووحده السيف أفضل إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد.. وما تفعلونه.

احتبس الكلام في صدره.

 ما يزال لديه ما يرغب في قوله.. ما يزال الصدر منه حامياً، والمسافة ما بين صدره ولسانه ما تزال ممتلئة بعشرات الكلمات.. لا يعرف كيف يقولها دفعة واحدة، أتيحت الفرصة له كاملة ليكون النجم الأوحد للمحطة الأكثر تحرراً من الرقابة، واختطف اللحظة فألقى “الإربيز” ولم تعد هناك سيطرة لـ”مخلوق” على كلماته، والكلمات التالية، فقد قال له معلمه فن “الوصل والتوك شو”: لا تنظر إلى الخلف، كن متوقداً متوهجاً بعبق كل لحظة، وكأنها لحظتك الأولى على الشاشة، يريد دفعة جديدة من الكلمات كرصاص المدفع الآلي.. ما تهدأ ولا ترحم، وإلا فهل نفذ “رشاشه”.. لكن الأضواء البعيدة التي تبدو كجذوة نار تميل للانطفاء، من بعيد تأخذ عينيه بـ”فسيفسائها” المكون من آلاف اللمبات المتناثرة، وخطوه في أمان أسفلها بعد الحلقة يغيظه، لا يريد لهذه الحلقة أن تنتهي.. سيقول: فاصل ونعود، سيدعي أن أزمة جاءته.. سيدخل طبيب ليعالجه في الأستوديو.. ولن يسمع كلامه بل سيعود بعد ثوان..

حمحمة في الأستوديو..

يفتح فمه ليقول:

– أريد طبيباً.. عفواً أيها المشاهدون..

 يجب أن يضع يده على صدره عندها.. والثانية يبحث عن شيء في الأستوديو الخالي ليستند إليه، قلوب المشاهدين ستقع أسفل أقدامهم عندها، لقد قارب الموت، وربما يكون يموت من أجلهم.. أي مذيع يمكن أن يكون أفضل منه إذن؟

ورقة في يد المصور:

انتهى الوقت.. اختم وإلا سنقطع الهواء عنك..

لا يستطيع التركيز أو النظر إلى الساعة:

– إنهم يهدون موهبتي متى ثارت لحساب النجم الممثل الذي بعدي..

– أعزائي المشاهدين.. كلما أخلصت النصح إليكم ضيقوا عليَّ.. اقطعوا الهواء عني إذن.. يضيق فضاء الحرية عني.. وكأنه ليس إلاي لتضيقوا عليه؟! اقطعوا الهواء عني.. لئن لم آخذ فرصتي “كاملة” لسوف انضم إلى المعسكر الآخر المعادي..

قطع..

هرولة على السلم، يفتح باب الكنترول بعنف:

– هل قطعتم قبل أن أقول لسوف انضم إلى المعسكر؟

.. الحمد لله.. كدتُ أضيع..!

 

 

 

Exit mobile version