نعم… لـ الإصلاح

لم أكن يوماً من المنتمين إلى جمعية الإصلاح الاجتماعي أو من المتبنين لفكر «الإخوان المسلمين»

لم أكن يوماً من المنتمين إلى جمعية الإصلاح الاجتماعي أو من المتبنين لفكر «الإخوان المسلمين»، لكنني أنتمي إلى جيل نشأ وترعرع في مجتمع كانت جمعية الإصلاح جزءاً أساسياً منه والمركز الأهم للعمل الخيري بشكله الصحيح وللدعوة الإسلامية بكل سماحتها.

كنت، ولسنين طويلة، قريباً بشكل شخصي من الراحل الكبير العم عبدالله العلي المطوع الذي كان، رحمه الله، بمثابة الوالد بالنسبة لي، ومدرسة في الأخلاق والمبادئ وقيم التواضع والتسامح وحب الخير. هذا الرجل هو الذي ساهم مع إخوانه في صياغة القانون الأساسي لجمعية الإصلاح وتولى تقديمه إلى السلطات المختصة للحصول على التراخيص اللازمة إيذاناً ببدء العمل بالصيغة الجديدة عام 1963 التي هي عملياً امتداد لصيغة جمعية الإرشاد التي تأسست عام 1952.

اليوم احتفلت الجمعية بمرور خمسين عاماً على تأسيسها، وهي مناسبة تطرح الكثير من الشجون وتفتح الباب لمناقشة الكثير من الشؤون خصوصاً في ظل هذه الظروف التي تطرح تحديات تتعلق بكيان الجمعية نفسه وليس فقط بالخط والنهج والمسار.

عام 1952 تداعى عدد من رجالات الكويت لتأسيس جمعية الإرشاد بهدفين رئيسيين: العمل الخيري وصيانة العقيدة. أكمل رجال «الإصلاح» ما بدأه أسلافهم ووضعوا مجموعة من الأهداف أهمها جمع الأمة على مبادئ الإسلام، ومناصرة قضايا المسلمين العادلة، وتقديم العون للمحتاجين، ونشر الوعي الإسلامي، وإنشاء لجان لتحقيق ذلك مثل الزكاة، والعمل الاجتماعي، ولجان أخرى تهتم بالشباب والشابات، ومعالجة الانحرافات الاجتماعية، وترسيخ الفكر الإسلامي المستنير ومساعدة السلطة في ترسيخ هذا الفكر في مجالات مثل التربية والتعليم والإعلام.

ومع دخول بعض المنتمين لجمعية الإصلاح معترك العمل السياسي العلني في بداية ثمانينيات القرن الماضي بدأ الخلط عند البعض بين الجمعية كمنظومة دعوة وعمل خيري وبين جماعة «الإخوان المسلمين» كتنظيم سياسي. وحتى نكون واقعيين فإن لهذا الخلط ما يبرره كون «الإصلاح» كانت الغطاء الدعوي الخيري الشرعي للمنتمين إلى «الإخوان» وبالتالي كان لا بد أن يصيبها من دخان العمل السياسي ونتائجه الشيء الكثير إن لم نقل من نيرانه…إنما للإنصاف التاريخي أيضاً فإن رجالات الجمعية خصوصاً أولئك الذين جعلوا العمل الخيري أولوية الأولويات لديهم كانوا أقدر من السياسيين على فهم خصوصية المجتمع الكويتي القائمة على التوافق والحوار والمحبة والرقي في الخلاف، واستطاعوا دائماً خلال العقود السابقة وصل ما انقطع سواء مع شركائهم في الوطن أو مع السلطة السياسية.

طبعاً، لا بد من التنويه أن الكويت تاريخياً اعتمدت «الطريق الثالث» في مواجهة المتغيرات العربية، ففي فترة صعود نجم الناصرية والقومية العربية وافتتان العسكر العربي بالتجارب والانقلابات كان «الإخوان» في مرمى النيران. دول أيدت النهج الجديد ورمت بثقلها خلف مصر الناصرية وكانت الحرب على «الإخوان» أولوية لديها، ودول عادت مصر ورمت بثقلها خلف «الإخوان» واستقبلتهم وفتحت لهم مجالات التربية والإعلام والدعوة. أما الكويت فكانت مع التوجه القومي الهادف إلى مواجهة الزلزال الإسرائيلي في المنطقة واحتفظت بعلاقات جيدة مع القاهرة لكنها في الوقت نفسه منحت «الإصلاح» وغيرها من الجمعيات الخيرية والدعوية حرية الحركة وحمتها من هجمات «الثوريين» والقوميين، وقد كان لرجالات الجمعية من الوعي الشيء الكثير، ومن النظرة للحكم في الكويت التقدير الكبير والامتنان الجزيل، وهذا الوعي – إضافة إلى أخلاقهم العالية – مكنهم من عبور الأزمات وأعفى السلطات الكويتية المتعاقبة حقيقة من إحراج الضغوط الخارجية.

ما حدث قبل فترة من الغزو العراقي للكويت وما تخلله وما تبعه من حوادث وتطورات دولية وإقليمية جعل الصوت السياسي لـ «الإخوان» أعلى بكثير من الصوت الدعوي الخيري لجمعية الإصلاح. وإذا استذكرنا الأخطاء التي حصلت في فترة الغزو انطلاقاً من بعض المواقف، فلا بد أن نقيس انعكاسات ذلك على عمل الجمعية ودورها، إنما مرة جديدة تمكن رجال الجمعية بخبرتهم العريقة وفهمهم للخصوصية الكويتية وللعلاقة مع الشريك في البلد ومع السلطة من تجاوز الأمر وتم الاتفاق على فصل «السياسي» عن «الخيري» ما أمكن لتنشأ الحركة الدستورية الإسلامية («حدس»).

استمر العمل الخيري واستمر العمل السياسي، بل أخذ «السياسي» في الأشهر والأعوام الماضية منحى تصادمياً دراماتيكياً مع السلطة ومع فئات سياسية ومجتمعية أخرى. ولا بد من التسليم بأن المجال السياسي ليس ثوباً ناصع البياض، وان ما من سياسي سلم من التلوث حتى ولو من حبر الإشاعات… السياسة مناورة وتسوية وخفض رؤوس لتمر العواصف وصفقات وتحالفات تتبدل ومصالح دائمة ومبررات ما أنزل الله بها من سلطان وهجوم وانكفاء، والمناصب مغرية، أضواء وخدمات ونجومية وسلطة. أما العمل الخيري فهو منزه عن الكثير من ذلك وهناك في الكويت حتى اليوم رجال أفنوا حياتهم في هذا المجال وهم يرفضون أن يعلم أحد بوجودهم.

طبعاً، لم تكن جمعية الإصلاح كياناً خيرياً دعوياً مئة في المئة كون ارتباطها بحركة «الإخوان» واضحاً ومعلوماً ولو من باب الرعاية والإرشاد والدعم. لكن من مصلحة الكويت والكويتيين الحفاظ على كيان الجمعية ودعم الجانب المستنير المعتدل في عملها الدعوي والخيري، خصوصاً في هذه الظروف المخيفة التي يعيش فيها العرب والمسلمون واحداً من أظلم أيامهم. فإذا كان هدف الجمعية «جمع الأمة على مبادئ الإسلام» فلا بد أن تتقدم الصفوف لمحاربة الانقسامات الطائفية المذهبية وتصدر الدعوة الى كلمة سواء تجمع المسلمين وتجرم الطائفية والعنصرية والفئوية. وإذا كان عمل الخير ودعم قضايا المحتاجين من أولوياتها فلتنطلق به من دون النظر الى أي عائق وتعممه وتوسع نطاقه ليشمل الجميع.

بعض السياسيين المنتمين لفكر الجمعية تمادوا في السنوات الاخيرة في ممارسة العمل السياسي بشكل سلبي، لكنهم يجب ألا يكونوا السبب في شن الحرب على الجمعية ككيان، ويا ليت هؤلاء يقتدون بمن سبقهم في العمل السياسي كرئيس الجمعية الحالي العم حمود الرومي الذي يملك رؤية متقدمة جدا للعمل في الشأن العام قائمة على النصح والارشاد والموعظة الحسنة وأخلاقيات الاختلاف… وعلى ان الحوار سيد الاحكام والتوافق سيد القرارات.

نعم، نحن مع الحفاظ على جمعية الإصلاح كمنظومة عمل خيري لا ينكر أياديها البيضاء سوى جاحد أو جاهل، ونحن مع رؤية بعض رجالاتها الكرام للعلاقات الاجتماعية بين الكويتيين والحفاظ على جسور التواصل والتفاهم والتآزر في أصعب الظروف، ونحن مع إيجاد فصل حقيقي وجذري بين الجمعية وبين أي كيان سياسي آخر من أجل الفصل بين نصاعة الثوب الخيري وسواد الأخطاء السياسية، فلا تتحمل الجمعية وزر موقف هنا أو تطرف هناك أو ممارسات في الشوارع هي أبعد ما تكون عنها.

ونحن مع الحفاظ على جمعية الإصلاح من أجل الفصل بين مسيرتها ومسارها من جهة وبين ما يحكى عن مشاريع سياسية تتعلق بالسلطة أو بأجندات معينة من الخارج والداخل.

ونحن مع جمعية الإصلاح وغيرها من جمعيات الخير التي بيضت وجه الكويت، ونتمنى أن يؤمن القيمون عليها بجدوى الفصل عن «العملية السياسية» حتى ولو كانت الروابط في مجالات معينة ملتصقة جداً، لان الناس تحتاجها في كل وقت، ولان أهدافها السامية المعلنة تهم جميع المسلمين في كل وقت… أما التصويت أو عدم التصويت لمرشح من «حدس» وقت الانتخابات فأمر يخص كل مواطن بشكل شخصي.

نبارك لهذا الصرح عبوره العام الخمسين… والخمسون أكثر من كافية لاتخاذ خطوات تحمي مسيرة «الاصلاح» المقبلة.

(*) افتتاحية صحيفة “الراي” الكويتية في 14 نوفمبر 2014م

 

Exit mobile version