د. طارق الغندور.. وجنود جدد

تلك حقيقة صارت تقضّ منامنا وتمنعنا الرقاد، إن من لديه أدنى درجة من إحساس وينتمي إلى مصر، أو حتى لا ينتمي إليها، وينتمي إلى الإنسانية تسوؤه أيما إساءة ما يحدث بالكنانة للأبرياء على مدار الساعة، إن يوماً بليلته لا يكاد يمر، بل إن نهاراً لا يمر إلا بشهد

صرنا نشتهي الموت فلا نجده في مصر!

تلك حقيقة صارت تقضّ منامنا وتمنعنا الرقاد، إن من لديه أدنى درجة من إحساس وينتمي إلى مصر، أو حتى لا ينتمي إليها، وينتمي إلى الإنسانية تسوؤه أيما إساءة ما يحدث بالكنانة للأبرياء على مدار الساعة، إن يوماً بليلته لا يكاد يمر، بل إن نهاراً لا يمر إلا بشهداء، ولا يأتي الليل إلا بفلذة كبد لأهله، وقد قتل، وهو في ميعة الصبا، أو مقدمات الشباب، أما الشيبة، والعجائز، فالقتل قريب جداً إليهم، بل الشهادة، ومن عجب فإن القضاء يكمل المأساة ويهيئ الأجواء للفسدة من الشرطة والعسكر كي يكملوا المصير نحو تحطيم مصر، وهل كان القضاء ليحكم على أطفال بالسجن لسنوات إلا في ظل الانقلاب؟!

رجل صالح جلّ ذنبه أن الناس قدّرته، كما ينبغي لمثله، عالم جليل، نبغ في الطب، الأمراض الجلدية والتناسلية، وكان من مثل مئات الآلاف من نوابغ جماعة الإخوان المسلمين، ممن كان لهم جانب مضيء من حياتهم في بذل جهدهم، وعصارة حياتهم في سبيل خدمة الشعب المصري قبل الانقلاب، بخاصة والرجل، عليه سحائب الرضوان، يعرف جيداً كم قاسى المصريون، وما يزالون تحت ذل وقهر حكم العسكر، حراس الوطن، والمدافعين عن شرفه حينما يتخلون عن مبادئهم، ويوجهون سلاحهم نحو شرفاء الوطن، وكان الرجل على حق بخاصة لما نعلم أنه كان واحداً من أشهر أطباء المستشفى الميداني في ميدان التحرير أثناء ثورة 25 من يناير التي لم تكتمل بعد، إذ إنه يبدو أن الداخلية لم تنس للرجل الفاضل الموقف، وكان أن اعتقلته في 18 ديسمبر الماضي، رغم إصابته بالتهاب الكبد الوبائي، وكان أن رأى العسكر ألا ضير من أن يموت الرجل ليضاف لسلسلة من قضوا شهداء في السجون المصرية.. بعد أن حكم القضاء عليه بالسجن لخمس سنوات في تهم لا يصدقها عقل مخبول.

ما كل هذه المآسي يا وطني؟

الرجل كما أفاد ابنه زياد، وله ولدان وابنتان بالمناسبة كانوا في حياته زهرتها، كان يعد العدة لزراعة الكبد، وكان يوشك على نقل الكبد أو جزء منه لولا اعتقاله من قبل جلاديّ الانقلاب، وفي السجن ساءت حالة الرجل، ورفض الذين انتزعت الرحمة من قلوبهم نقله إلى مستشفى عين شمس التخصصي حيث ملفه الطبي، ولم يتم استدعاء أهله لعلاجه، وعانى الرجل في مستشفى شبين الكوم من نزيف لقرابة ثماني ساعات، ولما “صعب” الرجل على أحد الأطباء فاتصل بأهله، ولما جاء الصباح، وكانت قلوب زوجته وأولاده تحترق عليه، ولما أذن الله للشمس بأن تشرق، والرجل دمه يغرق المكان فما كان من قوات الأمن إلا أن قالت لأهله:

من قال لكم تأتون الآن؟

ألا يظن أولئك أنهم سيلقون الله تعالى عن قريب؟

هل هؤلاء بشر من الأساس؟

إنهم يعلمون أنه مسجون ظلماً، وهو مريض محروم من أبسط حقوقه في العلاج، وينزف، وفي قرارة أنفسهم يستعجلون موته، ما كل هذه الكمية من الإجرام المطوية عليها قلوب المفترض أنها بشرية، لا شبين الكوم كلها مهيأة لعلاج مثل حالته، مع التوقف الجزئي للقلب، ولا مجرمي مصر كانوا يريدون له الإفاقة والعودة إلى الحياة.

ناقش الطبيب الشهيد الآن مائة رسالة علمية بين ماجستير ودكتوراه وبحث علمي، وعدداً من المؤلفات الطبية، إذن فنحن أمام عالم متميز، يحفظ القرآن الكريم من قبل هذا، وإذا كنا نعامل في مصر العلماء بهذه الطريقة.. فماذا أبقينا لمعاملة الحيوانات؟ إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، توعد من ترك قطة حتى تموت بجهنم، فماذا عمن يتعمدون قتل أولياء الله الصالحين؟! إنني أعرف ويعلم ويعرف كل مصري شريف أن من المجرمين قسماً كبيراً يعاملون في مصر على أنهم شرفاء، بل ويُعيَّنون في مناصب عليا في الدولة، وفي أجهزة حساسة، واسألوا عن بعض مقدميّ البرامج الانقلابية على الأقل، وبالمثل رؤساء تحرير الصحف الانقلابية، والمتحدثين الإعلاميين بخاصة في الأحزاب ذات المرجعية، أو التي تدعي أن لها مرجعية دينية، ماذا فعل لكم طارق الغندور؟ وقد صار عند الله فما داعي لقب دكتور أو حرف الدال، قتلتموه قاتلكم الله تعالى، وقاتل الخوف منكم بل قاتل الشعور المزيف الذي نترجمه على أنه حب الحياة من بعدكم.

في نفس يوم قتله، ومن المشهور عنه أنه أثناء إجرائه العمليات الجراحية بالبنج النصفي يسأل مريضه أي سورة أحب إليك من القرآن، ولم يكن رحمه الله يشغلها من جهاز إلكتروني بل من لسان يتلألأ بذكر الله تعالى، وفي نفس يوم استشهاده أكثر من شهيد وشهيدة في مستشفيات وعلى أبوابها، وفي ناهيا التي اقتحمها الظلمة من الشرطة والجيش مساء، كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً تم استشهادهم الأربعاء الماضي، وما كان الله تعالى ليهدر دمهم، بل هو لعنة على الظلمة، وفي نفس الليلة يعلن الانقلابيون عن فقدان ثمانية جنود وإصابة خمسة في هجوم إرهابي عليهم بقلب البحر، ما هذه التفاهات والسخافات والهراء.. والفاعل دائماً مجهول، ولا أحد يفسر التطور غير المعقول في العمليات المسماة بالإرهابية، وأصابع الحقيقة تشير إلى معلنيها.

كان الناس حزانى على طارق الغندور الطبيب العالم الشهيد في سجون الانقلاب، فخرج علينا عالم فاضل في الدين ليقول: إن مثله في السجون كثيرون، ويموتون في صمت.. ألم نعد بالفعل نشتهي في مصر الموت فلا نجده؟

لولا قريب فجر وشيك بإذن الله..

أما من لا يدرك سوء الوضع في مصر، بعد كل هذا، فله سؤال واحد:

ماذا لو كان الشهيد طارق الغندور والآلاف قبله.. وماذا لو كان جنود البحرية والعشرات قبلهم.. يسمون باسم غندور آخر ينتمي إلى عالم الرياضة؟

Exit mobile version