بين التيسير والتفلّت.. وبين المبشرات والتخدير

يجب أن نسأل أنفسنا، نحن معشر الدعاة والكتَّاب والمؤلفين والأدباء، يجب أن نسأل أنفسنا: من نخاطب؟! لمن نكتب؟! ولماذا نكتب؟!

يجب أن نسأل أنفسنا، نحن معشر الدعاة والكتَّاب والمؤلفين والأدباء، يجب أن نسأل أنفسنا: من نخاطب؟! لمن نكتب؟! ولماذا نكتب؟!

هنالك فرق كبير بين أن تخاطب أجيالاً واعية لدينها مصاحبة لمنهاج الله تعالى، وبين أن تخاطب أجيالاً عجمت ألسنتها فجهلت لغتها، وهجرت منهاج الله فلا تتلوه إلا لماماً، أو تتلوه دون تدبّر ووعي، ودون خشية وخشوع.

إن كثيراً مما تحمله الصحف والمجلات والكتب من مصطلحات عامة، تحمل جمال الرنين وحلاوة الظلال، ولكنها لا تحقق الهدف الذي يرجوه قائلها في كثير من الأحيان.

عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس: “يسِّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا” (رواه الشيخان وأحمد والنسائي)، أو فيما رواه أبو موسى: “يسّرا ولا تعسِّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا” (رواه الشيخان وأحمد).

وعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كان يخاطب أبناء مدرسة النبوّة الذين فقهوا كتاب الله تعالى وتعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا خاطبنا عامة الناس اليوم بهذا الحديث الشريف وهم لا يحملون علماً ولا فقهاً، فكيف ييسروا ولا يعسروا؟ وكيف يبشروا ولا ينفروا؟ ومن مشاهدة الواقع الحي فإنك ترى من “المثقفين” مَنْ يستخدم هذا الحديث ليتحلّل من واجبات، وليخرج به عن الحق، وليجادل ويماري.

لقد أخذ أناس بهذا التيسير وعدم التعسير في ميدان السياسة ليهوّن ضياع البلاد والعباد، لقد تحوّل استخدام هذا الحديث إلى تخدير أو تضليل من أناس لا يصاحبون منهاج الله تعالى، والله أعلم بإيمانهم.

ولقد استخدم الكثيرون مصطلح “الصحوة” ليُخْفوا به شروراً، وليدافعوا عن باطل، وليماروا ويجادلوا، حتى كأنَّ شعار الصحوة الإسلامية أصبح مصدر تخدير لا مصدر إفاقة ويقظة، ولقد وجدت “الصحوة” عاصفة وحماسة أكثر مما وجدت من التوجيه والإرشاد، ولقد مرّت قضايا كثيرة في واقعنا اليوم تحوّلها العاطفة والممارسة إلى تخدير مع جفاف التوجيه والإرشاد، ثم نأخذ بالتلاوم بعد الفشل والهزيمة والاندحار.

إنِ “التبشير” يجـب ألا يُخفي حقيقـة الأمـراض التي يعانـي منها المسلمـــون، وألا يحول دون وضع العلاج.

ولقد بدأت هذه الحقائق تتكشف، حتى إن د. يوسف القرضاوي يعلن في صحيفة “الشرق الأوسط” في مقالته عن “الصحوة الإسلامية”؛ أنه يخشى على الصحوة من أبنائها لا من أعدائها! لماذا؟! لأن هناك خللاً لم يعالج.

و”الوسطية” تعبير جميل نجد له ما يسوغه في الكتاب والسُّنة، ولكننا حين نطلق هذا التعبير فمَنْ نخاطب به؟!

هل نخاطب العامة؟! فماذا يفعلون بالوسطية؟!

هل نخاطب المثقفين المنتسبين إلى الإسلام؟! ولا زاد لهم يعينهم على معرفة الوسطية من غيرها؟!

هل نخاطب الدعاة أم الأحزاب أم المقاتلين؟! لقد بيّن لنا الواقع المؤلم اليوم أننا بعد عشرات السنين من البذل والعمل، نجد أن كثيراً ممن يتقدّمون في الساحة إلى العمل لا يتجاوز زادهم الشيء القليل القليل من هذا الدين! فلماذا يفعلون بهذه المصطلحات التي أخـذت تتزايد في واقعنا اليوم دون أن تجعل تفصيلات تعين وتوجه، ودون أن تحمل منهجاً مفصَّلاً مدروساً.

إننا لا ندعو إلى شيء من هذه المصطلحات العامة التي لا يستطيع العدد الأكبر من المسلمين أن يستفيد منها، وهو خالٍ من الزاد الذي يحتاجه.

إننا ندعو إلى منهج عمليّ تطبيقيّ مفصّل، يحمل النظرية ومناهج التطبيق ونماذجها العملية، ولا بأس عندئذ أن يحمل المنهج مصطلحات محددة التعريف والدلالة والتطبيق.

إننا ندعو إلى منهج يحمل النظرية والمناهج والنماذج ليقود هذا المنهج إلى الصحوة التي ننشدها، وإلى “اليقظة” التي “نحلم” بها، وإلى سلامة تطبيق الوسطية، حتى لا تتحوّل “الوسطية” نفسها إلى مغالاة أو إلى تفلت.

إننا ندعو إلى منهج يحمل التفصيلات التي تعين على بناء جيل يحمل المسؤولية التي كلفه الله بها، وينهض إلى “الأمانة” التي خلق للوفاء بها.

لقد أصبحت المصطلحات في واقعنا اليوم موضع نزاع في المفهوم، لقد انتشر مصطلح الأصولية بعد أن وفد إلينا من الغرب مع سائر بضاعته، انتشر المصطلح وكأن الغرب يريد أن يفرض علينا مفهومه، ثم يغرس في قلوبنا كراهية المصطلح ومن ينتسب إليه وما يرتبط به.

كيف يكون إسلام دون تمسك بأصوله؟ وهل للإسلام، لدين الله أصول ثابتة لا يأتيها باطل من بين يديها ولا من خلفها غير الكتاب والسُّنة؟!

من هم الأُصوليون؟ ومن هم غير الأصوليين؟! وإني لأسأل نفسي: هل أنا أصوليّ أم لا؟ هل علماء المسلمين الصادقون أصوليون أم لا؟!

تزاحمت المصطلحات حتى صـــارت هي نفسهـا موضع نزاع واختلاف وصراع.. إن جميع هذه المصطلحات لم تقدّم العلاج لأمراضنا، ولم تشقّ الطريق أمام أمتنا، وزادتنا حيرة على حيرة.

وما زال الكثيرون من الدعاة، ومن الدعاة الذين ارتقى علمهم وزادهم، ومازال الكثيرون من هؤلاء يدافعون عن أحزاب وتكتلات أكثر مما يدافعون عن الإسلام، حتى لو أنك جئت تنصح رجلاً أو تكشف زللاً لثارت ثائرته مادام الزلل يمس جماعته أو حزبه أو زعيمه وقائده!

لقد أصبح كل فريق يرى من الناحية العملية أنه خال من العيوب والأخطاء، وأنه فوق النصح الذي أصبحوا يسمّونه نقداً، نكاد نجعل من هياكلنا أوثاناً نقدّسها، ثم نتحدث عن الإسلام والدعوة وغير ذلك.

والمبشرات بانتصار الإسلام! إنها حقيقة لا ننكرها، فالمبشرات آيات كريمة وأحاديث شريفة! ولكن ليست هذه هي المشكلة التي نحتاج أن نخاطب واقعنا اليوم بها وحدها.

إن الخوف الحقيقي الذي يجب أن نخافه ليس على الإسلام، فللإسلام ربٌّ سينصره بجنوده حين يريد الله سبحانه وتعالى، إن الخوف الحقيقي هو على أنفسنا يوم نقف بين يدي الله يحاسبنا على ما بذلناه لنصرة دين الله تعالى، وكيف كانت نيّاتنا، وماذا فعلنا؟ ماذا تركنا؟! سيحاسبنا الله سبحانه وتعالى عن الصراع الدائر والشقاق الثائر والجهود الضائعة! سيحاسبنا هل نصَحنا وصدقنا الله في النصح؟! هل حدّدنا أمراضنا ودرسناها ووضعنا لها العلاج؟! وأين هو العلاج؟

أيها الناس، أيها المسلمون، أيها الدعاة، لا تخافوا على الإسلام، فالإسلام سينتصر لا محالة بإذن الله تعالى، ولكن خافوا على أنفسكم، فهذه مرحلة ابتلاء وتمحيص لتقوم الحجة يوم القيامة لكم أو عليكم!

إنها فترة ابتلاء وتمحيص، وإن الموت حق، والبعث حق، والساعة حق، والجنة والنار حق! إنها فترة ابتلاء وتمحيص سُنة الله في خلقه: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141}) (آل عمران).

وكذلك: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {179}) (آل عمران).

فآمنوا بالله ورسله..!

والإيمان مفاصلة وحسم، وتكاليف والتزام، ومسؤولية وحساب.. فانهضوا إلى التكاليف أيها المسلمون، فهذا هو أول المبشّرات!

إذا أغرقنا في طرح التفاؤل، ولم نكشف الأخطار والأمراض، ولم نضع العلاج والحلول العمليّة، فإن التفاؤل يتحوّل إلى تخدير، أو يدفع إلى الانحراف وأخطاء يقع فيها الكثيرون حتى يجدوا العلاج! 

Exit mobile version