ولهذا ضرب القرآن بها مثلاً!

ثمة فارق كبير بين أمة استفزّها الذباب فقررت أن تعلن الحرب عليه، وبين أمة أخرى تركته يتكاثر في ديارها

 {إنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ”26″} (البقرة)، ويوماً حدّثني أحد المتشككين قائلاً: حقاً إن البعوض يمثل مشكلة فلسفية! فقلت له: كيف؟ أجاب: كيف تبرّر أسباب خلق هذا الكائن التافه الصغير الذي طالما أقلقنا خلال النوم، وطنّ في آذاننا الساعات الطوال، وامتصّ دماءنا، ولم يدعنا نغفو لحظة واحدة.. هل ثمة مبرّر لخلقه على الإطلاق؟

 

قلت له: ارجع إلى الآية القرآنية التي تتحدث عن هذا الكائن الصغير فستجد الجواب عن سؤالك المحيّر، والإجابة عما تسميه معضلة فلسفية، وتلوت عليه الآية المذكورة، فلم يكد يفقه منها شيئاً! وأعاد القول: إنها معضلة ليس لها من جواب شافٍ!

أجبته: ولهذا ضرب القرآن الكريم بها مثلاً، وجعل الناس ينقسمون إزاءها إلى صنفين: المؤمنون الذين «يعلمون» أنه الحق من ربهم، والكفار الذين يقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً.. ولاحظ معي صفة «العلم» التي ألحقها بالمؤمنين، وكأنه يريد أن يقول: إنه بالإيمان والعلم معاً يمكن أن نعثر على الجواب.

الإيمان بالتسليم المطلق لحكمة الله جلّ جلاله في الخلق، بدءاً بأكبر الكائنات الحية حجماً وانتهاءً بأصغرها.. والعلم الذي سيكشف لنا حيناً بعد حين أبعاد الحكمة من خلق كائنات كهذه.

هذا إلى أن البعوض، وكل الحشرات المؤذية الأخرى، تمثل تحدياً للإرادة البشرية وتتطلب استجابة من نوعٍ ما، وبمجموع هذه الاستجابات تتشكل الحضارات البشرية.

إنني أتذكر هنا ما ذكره المؤرخ البريطاني المعاصر «أرنولد توينبي» من أن الحضارة المصرية التي هي واحدة من أقدم الحضارات في العالم، ما كانت لتتحقق لولا قدرة المصريين القدماء على الاستجابة لتحديات البيئة المصرية الصعبة المترعة بالمستنقعات، والبعوض، والملاريا؛ فشمروا عن ساعد الجدّ، وطمروا المستنقعات، ولاحقوا البعوض، وأوقفوا زحف الملاريا، وصنعوا حضارتهم المصرية تلك.

وأتذكر أيضاً كيف أن الصين أعلنت يوماً عن حملة شاملة لمحو الذباب المتكاثر في البيئة الصينية، وابتكرت لذلك الوسائل، وأخذت بالأسباب، وأعلنت عن سلسلة من النشرات التي تلقفها الصينيون ولاحقوا الذباب وكادوا أن يأتوا عليه.

وغير هذين المثالين عشرات بل مئات الأمثلة، ليس أقلها خطراً الإفادة من سموم العقارب والحيات لتصنيع الأمصال المضادة للسم ونجاحها المدهش.

ثم إن هذه الكائنات التافهة، كما قد يخيّل للبعض، كشفت المتابعات العلمية عن تركيبها الحيوي المدهش، في صنعها وتصميمها، بما في ذلك خراطيمها التي تعد بالعشرات والتي تصنّف وفق وظائفها، فبعضها للمس، وبعضها الآخر للامتصاص، وفئة ثالثة للتحليل، فكأنها معمل كيماوي في أقصى درجات التعقيد.

والقرآن الكريم عندما يقول: «فما فوقها»، فإن دلالة الكلمة تذهب إلى الكائنات الأصغر منها حجماً، والتي تحتوي هي الأخرى، بقوّة الكشف العلمي، على تركيبها المدهش!

إن عالم الطبيعة ينطوي على شبكة من التوازنات الحيوية، من أجل إدامة الحياة وتوفير لقمة العيش للكائنات جميعاً، فلا يقل أحد: إن الكائن الفلاني لا حكمة من خلقه، وحاشا لله، وبمجرد متابعة لبرامج «الناشيونال جيوجرافي» سيعرف الإنسان كم أن لكل كائن حكمة مؤكدة من خلقه.

وثمة فارق كبير بين أمة استفزّها الذباب فقررت أن تعلن الحرب عليه، وبين أمة أخرى تركته يتكاثر في ديارها، ويتساقط على أطعمتها فيلوّثها بالميكروبات، ويسوق آلاف المواطنين إلى زنزانات الأوجاع والأمراض!

أكان يمكن أن يحدث هذا لو أن الإنسان أدرك الحكمة التي تكمن وراء خلق البعوض والذباب؟!

Exit mobile version