الأتراك فهموا اللعبة

منذ احتلال العراق عام 2003م، والعبث السياسي والعسكري هو سيد الموقف في منطقة الهلال الخصيب

منذ احتلال العراق عام 2003م، والعبث السياسي والعسكري هو سيد الموقف في منطقة الهلال الخصيب، زاد الأمور تعقيداً توافقُ المواقف والمصالح حيناً وتعارضها في حين آخر بين الغرب عموماً وإيران من جهة أخرى، لم يكن الأمر خافياً على الساسة الأتراك في حزب “العدالة والتنمية” وهم يقودون بلدهم نحو نجاحات متتالية في المجالات السياسية والاقتصادية، بعد أن غيَّروا إلى حد كبير الهوية الأيديولوجية التركية، رغم احتفاظهم بالجذور العلمانية للبلد، في هذه الفترة أطلت الحرب الباردة برأسها من جديد في المنطقة بقيادة الدب الروسي، وبالتعاون مع بعض الأنظمة كالنظام السوري والإيراني؛ حيث يلعب الأخير على كافة الحبال، وخصوصاً الطائفية؛ من أجل إعادة أمجاده الغابرة، وهي عقدة العقد في الفكر الفارسي السياسي منذ هزيمته أمام العرب المسلمين قبل أربعة عشر قرناً، ولم يستطع تجاوزها إلا بتبني الفكر الباطني.

والفكر الغربي الذي يشكل الفكر اليهودي – الصهيوني جزء منه يحتفظ لفارس بنوع من الود تكرسه أسفار الكتاب المقدس بشكل لا غبار عليه، في هذه الأجواء ظهرت بوادر “الربيع العربي”، والذي وقفت ضده كل الأنظمة العربية سواء الجمهورية منها أم الملكية الوراثية، كما وقفت إيران بصورة أو بأخرى ضد التغييرات التي تشكل خطراً على مشروعها الطائفي، في حين رحبت تركيا بـ”الربيع العربي”؛ لما شكله من امتداد لفكرها السياسي، وقاعدة مستقبلية للارتكاز عليه في المستقبل، خصوصاً بعد ظهور التيارات الإسلامية على الواجهة.

ويدرك الأتراك الموقف الإيراني إدراكاً تاماً، خصوصاً من خلال قراءة تاريخ العلاقات بين الدولتين على مدار خمسة قرون لم يتردد فيها مطلقاً الإيرانيون بالوقوف مع الأوروبيين بصورة أو بأخرى في حروبهم التي لم تتوقف مع الإمبراطورية العثمانية، ولكن النجاح الاقتصادي التركي ظل عائقاً أمام القرار التركي للتصريح بمكنون الموقف الإيراني السلبي، بالإضافة لاعتماد السياسة التركية على مبدأ “صفر مشكلات” الذي تبناه السيد “أحمد داود أوغلو” والذي أثبت عدم واقعيته مع التطورات الجارية هذه الأيام، وأنه ليس إلا مجرد حلم في عالم لا تحركه إلا المشكلات والمصالح، حيث جسَّد ذلك المبدأ “أردوغان” بتصريحه عن وجود عقل أعلى مدبر لهذه المشكلات في الشرق، ويرمي من ورائها إلى جر تركيا نحو مغارات غير محسوبة.

أصبح التدخل الإيراني سافراً في تركيا من خلال دعمها للطائفة النصيرية والتي تسمى زوراً وبهتاناً بـ”العلوية”، رغم الاختلاف المبدئي بين شيعة إيران الاثني عشرية، وهذه الطائفة التي تعتبر من أشد الفئات غلواً في المذهب الشيعي، وتؤمن بحلول الله تعالى في علي رضي الله عنه! (تعالى الله عما يقولون)، ولا علاقة لها بالانتساب للنسب العلوي الكريم، ولا يعترف معظم المنتسبين لهذه الطائفة بالانتماء للإسلام، حتى إنهم بمظاهراتهم الأخيرة في بعض المدن التركية طالبوا بإلغاء درس الدين الإسلامي، واعتبارهم ديانة موازية للإسلام، ولم يترددوا في الاعتراض على تسمية الجسر المعلق باسم السلطان سليم الثالث الذي هزم إسماعيل الصفوي في معركة “جالديران” عام 1514م، وأنهم كانوا نواة أحداث العنف في “ميدان تقسيم” وقتل منهم ستة أشخاص! ثم تجلت الأمور أكثر بتبني المخابرات الألمانية لهم ومحاولة تنصيرهم وهو أمر غير مأسوف عليه.

إن التدخل الإيراني والذي تجلى بصورة سافرة في سورية يتطابق تماماً مع الأهداف الأمريكية في المنطقة الذي يرفع شعار محاربة الإرهاب والذي صنعوا جزءاً كبيراً منه، إنهم يريدون تقسيم المنطقة حسب مصالحهم ومخططاتهم في عقلية استعمارية جديدة يصب معظمها في خدمة بقاء “إسرائيل”، وأرادوا من تركيا كشريك فاعل في حلف الأطلسي أن تكون أداة بدون إرادة في هذه اللعبة، وخصوصاً من خلال مأساة “كوباني” الأخيرة، مما حدا بالسيد رئيس وزراء تركيا السيد “أحمد داود أوغلو” وهو الشخص الضالع في التاريخ والسياسة والاقتصاد، أن يصرح في مقابلته الأخيرة مع قناة “الجزيرة” في 22/10/2014م، بأن تركيا تعارض تقسيم أي دولة في المنطقة بما فيها العراق وسورية، وأن مصير المنطقة يجب أن يكون بيد شعوبها وليس من خلال الخرائط التي ترسم بالغرب، إشارة لمعاهدة “سايكس بيكو” التي تحاول أمريكا إحياءها بصورة أخرى تتوافق مع الرغبات الإيرانية، وخلق كيانات هزيلة ليس لها إرادة في السياسة والاقتصاد كدولة جنوب السودان بما يسمى بالشرق الأوسط الجديد.

وعليه، فإن الغرب والولايات المتحدة خصوصاً لا تخاف من تنظيم طارئ متطرف مثل “داعش”، وكذلك إيران التي هي في قمة فرحتها من هذا التنظيم الذي شوَّه صورة الإسلام السُّني بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وكلاهما يعلم علم اليقين أن وراء هذه المؤسسة المشبوهة التي ظهرت كالتنين الخرافي أيادٍ خفية، وأنها مرفوضة إسلامياً جملة وتفصيلاً، رغم رفعها علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كل ممارساتها تتنافى مع الفكر الإسلامي المتسم بالتسامح والرحمة والعفو، بعد أن عايشناهم لفترة اكتشفنا أنهم أقرب لعصابات المافيا من جيش جهادي في كل تصرفاتهم الهستيرية؛ مما يدل بدون أدنى شك على وقوف الأيدي المخابراتية خلف صناعتها.

لقد أدرك الأتراك هذه اللعبة وهم في فترة حرجة يشقون طريقهم في كافة المجالات، ناهيك عن تأثير نجاح تجربتهم على مجريات الأمور في الشرق الإسلامي، كما لها تأثير عميق على الفكر الأوروبي الذي لا يفتأ تكرار عدم تفهم المسلمين للتقدم والديمقراطية، وأنه أسير الماضي واستحضاره، ومن ثم استنساخه على الطريقة “الداعشية”.

أرادت أمريكا والغرب أن يزجوا تركيا في هذه المسرحية العبثية، وبعد أن ينهكوها اقتصادياً وعسكرياً يقومون هم بحصاد ثمار مخططاتهم.

لقد أدركت تركيا أن مسألة انتمائها لحلف شمال الأطلسي لا تعني تقديم الخدمات لأعضاء الحلف على طبق من ذهب، فبقوتها الاقتصادية المتجددة وبحكم ظهور القوة الروسية، فإنها تستطيع لعب أوراق كثيرة خارج الحلف، ولعل أهمها عمق تواجدها الإثني والديني في منطقة آسيا الوسطى، والتي بدأت أهميتها الاقتصادية تفوق أهمية بلدان الشرق الأوسط.

إن العقلية الغربية التي تصف كل مسلم بـ”التركي”، والعقلية الباطنية التي تقودها إيران وتحرك الأقليات الشيعية في العالم الإسلامي بموجب مصالحها، وتصرف عليها أموالاً طائلة من أموال الشعب الإيراني المنهك، لا ترضيان بنجاح التجربة التركية، وقد أدرك الأتراك ذلك، ولذلك فهم أمام مرحلة بالغة الخطورة، خصوصاً بعد إدراك الولايات المتحدة وإيران أن الأتراك قد فكوا لغز “داعش” الخفي.

 

Exit mobile version