ما بالُ أقوام!

لا شكَّ أن في البيتِ أخطاءً، وفي المدرسة أخطاء، وفي المسجد وأماكن العمل أخطاء، وعقب الثورات خطايا

لا شكَّ أن في البيتِ أخطاءً، وفي المدرسة أخطاء، وفي المسجد وأماكن العمل أخطاء، وعقب الثورات خطايا، فأينما وُجد ابن آدم فلابد من الخطأ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعالج الخطأ في حينه أحياناً، ولا يواجه صاحبه بما يكره، وكان ينتظر في حضور المجموع وبينهم صاحب الخطأ ثم يتحدث إليهم قائلاً: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ وهنا يوجه الخطابَ للجميع ناصحاً وموجهاً ومتجنباً أن يؤذي مشاعر المخطئ، صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا لعمري أسلوب تربوي راقٍ نفتقده وبشدة في مناحي حياتنا المختلفة! وقيل: “النصيحة في الملأ فضيحة”، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً: “ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم”، ثم تعلو لهجته ويحذر ليشدَّ له مسامع الكل، وفيهم من يقترف الخطأ فيقول: “لينتهُن عن ذلك أو لتُخطفنَّ أبصارهم” (رواه البخاري)، وهذا حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً يرفعون رؤوسهم إلى السماء في صلاتهم مما ينافي الخشية في الصلاة.

وسار على هذا النهج صحابته رضوان الله عليهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو على المنبر في خطبة الجمعة: ما بال أقوام يتأخرون عن النداء (يعني بعد الأذان وبين يدي الخطيب)، ويريد من توجيهه التبكير في الحضور إلى الجمعة.

ونحن في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا أحوج ما نكون إلى هذا التوجيه النبوي في علاج الخطأ، وحفظ مشاعر المخطئ في آن، وأكاد أجزم إن لم أكن مخطئاً أن (ما بال أقوام) من السنن المهجورة في حياتنا ونحتاج إلى تفعيلها في البيت والمدرسة وأماكن العمل، عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل: ما بال فلان يقول كذا وكذا، ولكن يقول ما بال أقوام يقولون”، فالعلاج غير المباشر يجعل المخطئ يصحح من فعله وهو مسرور، وأحياناً نتخذ من الحكاية أو الأقصوصة علاجاً، فهذا حتماً يحترم شخصية الطفل أو طالب العلم، ويؤدي أسلوب (ما بال أقوام) إلى مد جسور الثقة والألفة والانتماء للمكان وأشخاصه ويحفظ كرامة الآخرين، وأغلب الناس لديهم قدرات متفاوتة، فقد نجد من لدية ملكة الفهم أقوى من ملكة الحفظ، وآخر لديه الجانب الحركي أقوى من الجانب المعرفي، وذاك يتميز في جانب الشعور والوجدان، فعلى المربي أن يكتشف لدى المتلقي أي الجوانب أفضل؟ ويستغلها بأفضل ما يكون، فالمرء مجموعة ملكات وقدرات، والمربي لديه مِفتاح كل ملكة، فعليه أن يحسن توظيف هذه الملكات، بل ويحسن توظيف الأشخاص، فيكون الرجل المناسب في المكان المناسب، وليعلم الجميع أن قوة التأثير لا تأتي بالسوط والعنف، إنما تكون بمعرفة الميول النفسية، فالذي يحكم الجسم ليس كالذي يحكم الروح؛ لأن النفس تستقبل الأشياء مصحوبة بالسرور، وتنفر منها إذا صحبها الخوف ورافقتها الرهبة، فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه كان عمره لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إحدى عشرة سنة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى شدة ذكائه أن يتعلم لغة اليهود حتى يقرأ له كتبهم وقال له: “إني لا آمنهم”، وقد تعلم زيد بن ثابت رضي الله عنه السريانية في مدة قصيرة لا تتجاوز شهراً.

والإنسان بطبعه عدو ما يجعل، فمجرد إزالة الجهل والران من القلوب، تنطلق الطاقات المخبوءة داخل النفس، فنحن بحق نحتاج إلى من يخرج الخير الكامن في أعماقنا، وفي قصة موسى عليه السلام ما يؤكد ذلك، فكل من فرعون والسحرة قد شاهدوا العصا تتحول إلى حيةٍ عظيمة، فآمن السحرة ولم يؤمن فرعون، ليظهر الفارق في سبب الكفر واضحاً، فالسحرة قد منعهم الجهل من الإيمان بالله أول الأمر، لكن عندما شاهدوا الآية العظيمة أذعنوا واستسلموا: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {48}) (الشعراء)، وهذه بلقيس، ملكة سبأ، بعد دعوة سيدنا سليمان عليه السلام لها ورؤيتها الآيات المبهرة، وكانت وقومها يعبدون الشمس، نجد القرآن يبين سبب كفرها أنها نشأت بين قوم كافرين، وهذا يعني أنها كانت جاهلة بالحقيقة، وغابت عنها، فلما بلغتها الدعوة ورأت الآيات آمنت، فيقول تعالى: (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ {43}) (النمل).

ولابد من تعانق الفكر بالوجدان لينشأ الإيمان: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) (الحج:54).

ويقول محمد إقبال: “غاية وجود هذا الكون ولأجلكَ خلق الله هذا العالم، وأبرزه إلى الوجود”، وفي الأزمات وعقب الثورات يبدو نسيجُ المجتمعِ مهترئاً، وفي حالة تفككٍ، ويختلط الحابلُ بالنابل، ويظهر أسوأ ما في المجتمع وإن كثر، وأفضل ما فيه وإن قلَّ، وغالباً ما يصاحبُ ذلك الأنانية والعنف وتضخم الذات، وكل هذا وغيره ينخر في بنيةِ المجتمع القائمة على الطيبة وحسن الخلق، هنا تكمنُ أهمية القدوة التي تتمتع بالذكاء العاطفي وتصل بين المشاعر والحسِّ الأخلاقي، وأغلب المواقف الأخلاقية التي يتخذها المرء تنبع من القدرات العاطفية الكامنة لديه، والتصرف التلقائي في الأزمات هو قناة المشاعر، والتصرفات التلقائية تطفو على السطح فتنفجر كأفعال، فكما أظهرت ثورة يناير أجمل ما فينا، أظهرت أيضاً أسوأ من فينا، فمتى يفيق الطغاة؟ ومتى يزول الطواغيت؟ أسأل الله أن يكون هذا عاجلاً وليس آجلاً.. هذا والله أعلى وأعلم وهو من وراء القصد.

 

Exit mobile version