مكارثيون قبل مكارثي

لم تكن المكارثية فكرة جديدة على الطغاة والمستبدين، فبنك أفكارهم مليء بالأساليب الخطيرة، ولديهم منتسبون من الشياطين الذين يوحون إليهم بالجديد الذي يقف “مكارثي” نفسه عاجزاً أمامه

لم تكن المكارثية فكرة جديدة على الطغاة والمستبدين، فبنك أفكارهم مليء بالأساليب الخطيرة، ولديهم منتسبون من الشياطين الذين يوحون إليهم بالجديد الذي يقف “مكارثي” نفسه عاجزاً أمامه؛ ذلك أن كل مستبد يحصل على ذكاء شيطاني جمعي من نادي المنتفعين، يقدمونه كلما لاحت من بعيد هواجس الخطر، أو أرادوا تعظيم ما تحت أيديهم من سلطان ومال ونفوذ، أو رصد أدوار جديدة من الحماية والتحصين، يخرج في النهاية في صورة موجات من التعسف والظلم والاستبداد والاستعباد، موجه بالطبع إلى الشعب الذي هو مكمن الخطر وبيت القصيد في هذه السردية القاتمة التي تبدو وكأنها متمكنة من خط التاريخ، فيما عدا ما يبثه المؤرخون من ومضات مثالية هنا أو هناك ما تلبث قوى الشر أن تحاكم صانعيها وتحيلهم أعداء مارقين، تتأرجح في الغالب جثثهم على قافية التاريخ في انتظار الإنصاف من محقق مغمور بعد مئات السنين، أما “مزابل التاريخ” فقد استحالت مرفأ معموراً للطغاة يتنعمون فيه بالغبطة والحبور مع كهنة المعبد ونخبته المصنوعة ومؤرخيه المأجورين، ينظرون من نوافذه الذهبية إلى الشعوب المقهورة بكل صلف وغرور.

لم يكن “جوزيف مكارثي” محامياً وقاضياً في محكمة الاستئناف فقط، بل كان شيطاناً أيضاً.

تمكن من الفوز في عام 1948م في الانتخابات عن ولاية وِسْكونْسِن الأمريكية، فكان أصغر أعضاء مجلس الشيوخ سناً، وفي يوم 9 فبراير 1950م، خطب “مكارثي” في ولاية ويلينجز (ويست فرجينيا) في ذكرى ميلاد الرئيس “أبراهام لنكون”، وأعلن أن وزارة الخارجية أصبحت مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس روسيا، ورفع ورقة، وقال: هذه قائمة فيها 205 شيوعيين وجواسيس.

 هكذا ألقى “مكارثي” قنبلته ومضى في بلد يعاني من وضع حرج جراء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي؛ لتتوالي العديد من الإجراءات القمعية في حق المعارضة تحت غطاء حماية الأمن القومي الأمريكي، بعدما ضخم “مكارثي” أخباراً عن نشاطات شيوعية داخل وزارة الخارجية، وشاركه بعض قادة الحزب الجمهوري في الكونجرس، كما حقق مكتب التحقيق الفدرالي (أف بي آي) مع أكثر من ثلاثة آلاف دبلوماسي، وفصل “جيمس بيرنز”، وزير الخارجية في ذلك الوقت، مائة شخص تقريباً؛ «بسبب عدم كفاءتهم»، كان بعضهم شيوعياً، لكن أغلبيتهم كانوا أعضاء يساريين أو ليبراليين أو نقابيين.

انتشرت تلك الإجراءات بشكل مخيف، وكان لها في أول الأمر شعبية كبيرة؛ الأمر الذي دفع العشرات من المثقفين والفنانين والكتَّاب وبعض الشخصيات العامة إلى الهجرة من أمريكا، أو الانزواء بعيداً عن قبضة الأجهزة الأمنية؛ خوفاً من خطر الاعتقال أو التشويه، وأصبحت أي دعوة للتظاهر لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو حتى المطالب النقابية لتحسين ظروف العمل دعوة مشبوهة تعمل على تقويض السلم والأمن، وهي في حقيقتها عمالة للاتحاد السوفييتي والشيوعية العالمية، والمتعاطي معها خائن للتراب الأمريكي يجب محاسبته.

لم تقف حملة الخوف تلك عند السياسيين فقط بل تجاوزت إلى رموز معروفة في الفنون والآداب والعلوم، لمجرد أنهم يتمتعون برؤية واستقلال عن القرار الحكومي، وكان “مارتن لوثر كينج”، و”ألبرت أينشتاين”، و”تشارلي تشابلن”، و”آرثر ميللرودين إكسون”، و”جورج مارشال” من أهم هؤلاء.

راح ضحية تلك الحملة التي استمرت خمس سنوات الكثير ممن فقدوا وظائفهم أو غيبتهم السجون أو ظلوا مطاردين أو من تركوا وطنهم قسراً تحت سيف البطش والتنكيل، وقد وصف الكونجرس فيما بعد حملات التشهير التي اعتمدها “مكارثي” بالكارثية؛ لأنها دمرت الحياة الوظيفية لكثير من المواطنين حتى تردت الأوضاع في أجهزة الدولة التي تدهور أداؤها وانحدرت معنويات العاملين فيها.

لعل المثقف الأمريكي اليوم يتوارى خجلاً عندما يأتي ذكر هذه الحقبة الأشد حساسية في التاريخ الأمريكي.

الحديث – وكل تاريخ أمريكا حديث – لا سيما فيما يتصل بالظلم الاجتماعي والتعسف ضد المعارضين السياسيين على اختلاف انتماءاتهم على يد أجهزة الدولة التي كانت تدعم “جوزيف مكارثي” في جهوده لإخراس أي صوت معارض لسياسات الدولة عن طريق الاتهام بالتعاطف مع الشيوعيين، فكل معارض من وجهة نظر “مكارثي” وأجهزة الدولة عميل وطابور خامس للاتحاد السوفييتي ومشترك في المؤامرة الخارجية التي تحاك ضد الوطن.

مات منبوذاً مريضاً مدمناً بمستشفى بيثيدا البحرية في 2 مايو 1957م عن عمر يناهز 48 عاماً، ولم يكن ليخطر على باله أن يلجأ آخرون إلى أساليبه، بل وتكتب عشرات الدراسات عن مذهبه الاستبدادي الذي تلقفته بيئات حاضنة للفساد، وأنتجت منه وحشاً ضارياً يلجأ إليه لتمرير سياسات وإسكات خصوم وتصفية حسابات،

أصبحت “المكارثية” مذهباً له آليات معروفة لدى الأنظمة الاستبدادية؛ منها: تضخيم الخطر، وصناعة الخوف عن طريق صناعة عقيدة الشك ونشر الشائعات وتشويه الآخر وتلفيق التهم وإشاعة جو المؤامرة والتوتر واللهث وراء اصطناع الأزمات لا تفاديها.

ويمكن القول: إن الاستبداد العسكري كان مكارثياً قبل “مكارثي” عندما أسس لنظام الولاءات المطلقة لشخص القائد على حساب أي شيء آخر، بل جر ذلك النظام الصارم إلى الحياة المدنية التي تعرف الأخذ والرد والحوار والتفاهم في إطار تعدد الخبرات والثقافات والعلوم والمعارف؛ الأمر الذي لا يتوافر في البيئات العسكرية الخشنة؛ مما أثر سلباً على الحقوق والحريات وخنق الحركة المدنية بل خنق الحياة بشكل عام.

إن النفسية المتردية التي تؤثر السلامة بالعيش بعيداً داخل الحائط، وتفضيل العزلة بلا حقوق أو حرية على الدخول في الدوامة المصنوعة على أعين المكارثية المتجددة؛ هي الهدف الأساسي للحاكم المستبد، والتجارة الرابحة الذي يستحيل إلى منافع تتدفق على أعطافه وتمكنه وأعوانه من نهب الثروات فضلاً عن نهب الوعي والتاريخ.

 

 

Exit mobile version