خطوة للخلف من أجل خطوات للأمام

في كل يوم يعلن عن تجمع ثوري جديد، ينضوي تحته كثير من الثائرين جماعات وأفراداً، لكن الغالب على كل هذه التجمعات الثورية أنها إعادة تجمع لتجمعات مجتمعة بالفعل

في كل يوم يعلن عن تجمع ثوري جديد، ينضوي تحته كثير من الثائرين جماعات وأفراداً، لكن الغالب على كل هذه التجمعات الثورية أنها إعادة تجمع لتجمعات مجتمعة بالفعل، ولا جديد في أي منها.

 معروفة هي القوى التي تقف في وجه الانقلاب العسكري، وهي قوى اصطفت منذ أول أيام الانقلاب في صف واحد تحت عنوان “التحالف الوطني لدعم الشرعية”، وأصبح هذا التحالف هو الممثل الشرعي الوحيد للثورة الدائرة على انقلاب العسكر على أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر.

بعض القوى الأخرى لم ترضَ بما آلت إليه الأمور، وبعضها رأى أن ما حدث انقلاب حقيقي، لكنها قوى مراوغة في الحقيقة، تقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى، كلما دفعها إلى الأمام يقينها في مؤامرة العسكر من أجل عودتهم السريعة إلى الحكم، جذبها إلى الخلف كُرهها للإخوان ولحكمهم، وظل الصراع في ضميرها بين هذا وذاك، ثم حسم الصراع في نهايته بركونها للأمر الواقع، واكتفائها بعبارات عدم الرضا عن واقع التسلط والجور الذي تمارسه الدولة العسكرية البوليسية في نسختها الجديدة، النسخة الأكبر تجبراً والأكثر بطشاً.

انشطر بذلك التيار الثوري إلى شطرين، شطر ظل ثائراً فاعلاً لم يغادر الشارع إلى الآن حتى تكتمل ثورثه وتزهر، وشطر باع الثورة بسكوته وتسليمه، وقد باعها من قبل يوم أن وقف مع أعدائها وأعدائه في ميدان واحد، ميدان التحرير في الثلاثين من يونيو، ظاناً وقتها أنه يكمل الثورة التي بدأها في الخامس والعشرين من يناير، وما كان يعرف ساعتها أنه يجهز على بقيتها، ويخمد آخر أنفاسها، لتزهق روحها، فيقيم هو مع عدوها مأتماً راقصاً، تنشد فيه الأغاني الكاذبة، ويطنطن فيه الإعلام الأكذب، ليوهموا الجميع أن ثورة جديدة قامت لتعيد الروح إلى الثورة الأولى.. هي ثورة جديدة حقاً، لكنها قامت لوأد الأولى وسحق آثارها، وقد كان لها ذلك.

سأظل أردد دائماً أن الذين باعوا ثورة يناير هم الذين قبلوا أن يصطفوا في صف واحد مع أعدائها الحقيقيين (العسكر وفلول نظام “مبارك”)، وهم الذين من قبل ذلك رفضوا انتخابات حرة نزيهة جاءت بفصيل من بينهم – معشر الثوار – لتضعه أمام قدره حاكماً وقائداً لمسيرة الثورة.

لم تقبل بقية الطيف الثوري النتائج التي آلت إليها الأمور في أول انتخابات (رئاسية وبرلمانية) نزيهة في تاريخ مصر، وأخذوا يحاولون قدر ما يستطيعون إحداث حالة من الربكة الثورية من أجل العودة إلى نقطة الصفر بعد ثورة يناير، وكأن مصائر الأوطان لعبة عبثية ليس لها ضابط ولا نهاية.

في كل يومٍ انتخاب، وبعد كل انتخابٍ ثورة في اليوم التالي، ليجرى انتخاب آخر في يوم ثالث، فيثور الثائرون عليه في يوم رابع.. أي عبث هذا؟!

وصلنا في النهاية إلى هذا المشهد الراهن، انقلاب عسكري، مهَّد لدولة عسكرية بوليسية، وثورة دائرة ومستمرة من أجل كسر هذا الانقلاب ودولته، والعودة إلى المسار الديمقراطي الثوري الذي أعقب ثورة الخامس والعشرين من يناير.

لكن كما أوضحنا، فإن هناك جزءاً مهماً من أبناء الثورة ما زال مشاهداً وغير مشارك، ولا بد لكي تنجح الثورة أن يلحق بها هذا الجزء، فهي لم تنجح يوم أن نجحت في يناير إلا بهؤلاء وأولئك، عندما اصطفوا معاً، وتلاحموا معاً.

ولأجل أن يعود الجميع ليصطفوا معاً، يعلن كل يوم عن مثل هذه التجمعات الثورية الجديدة، وكلما أعلن عن تجمع منها، ثم رأى الجميع أن لا جديد، عاد البعض ليعلن تجمعاً آخر، راجياً أن يجد القبول لدى كل الطيف الثوري ليعود التلاحم المفقود، فلا يكون جديداً أيضاً، وهنا ينادي المنادون، وفي كل مرة، أنه لكي يعود الجميع، فلابد من البحث عن القواسم المشتركة، وتنحية كل القضايا الخلافية بل والتنازل عنها، ينادي الجميع، وفي كل مرة، أنه لا بد من أن يعود الكل خطوة إلى الوراء، إلى حدود ما كنا عليه في ثورة يناير، حتى يبدأ العمل كما كان في يناير.

يظهر جلياً من كل هذه الدعوات أنها تخاطب في الأساس جماعة الإخوان المسلمين وأنصار الشرعية، فهم المعنيون بفكرة “خطوة إلى الوراء” هذه، فبقية الطيف الثوري ما زال يطالب بالعودة إلى ثورة يناير ومطالب ثورة يناير، والوضع الذي أعقب ثورة يناير، فلا خطوة يطالب بها هذا الفريق إلى الخلف؛ لأنه لم يأخذ خطوة إلى الأمام بعيداً عن ذلك.

أما الإخوان المسلمون وأنصار الشرعية، فهم الذين يدافعون الآن عن استحقاق انتخابي، أتى برئيس منتخب وبرلمانات منتخبة، ونظام حكم منتخب جاء بإرادة شعبية حرة.

والخطوة إلى الوراء المقصودة دائماً، هي أن يتنازل الإخوان وأنصارهم عن فكرة عودة “مرسي” وعودة حكمهم؛ من أجل أن يلحق بهم بقية الركب الثوري، وتكون ثورة جديدة حينئذ على نظام عسكري غاشم، مثيلة لما كانت في ثورة يناير.

أسئلة كثيرة مشروعة تبحث عن إجاباتها في هذا الصدد:

لماذا يُطلب من الإخوان فقط الرجوع خطوة إلى الوراء؟

لماذا لا يطالب بقية الطيف الثوري بالرجوع خطوة هم أيضاً؟

أمِن المنطقي أن يتخلى الإخوان عن شرعيتهم بعد كل هذه الدماء والتضحيات؟

ما الواقع الذي نعود إليه إذا أسقطنا معاً هذا الانقلاب؟ ومن يدير البلاد حينها؟

هل مطلب البعض بعودة الإخوان خطوة إلى الوراء هو مطلب مخلص من أجل خطوات إلى الأمام، أم أنه أمر تعجيزي تبريري؟

نعم، نحن مع أن يعود الجميع خطوة إلى الوراء من أجل أن نمضي معاً في خطوات نحو الأمام، ولكن على الجميع ذلك دون استثناء.

فبقية الطيف الثوري مطلوب منه أن يعترف بخطئه في اشتراكه في هذه المؤامرة الانقلابية على حكم الإخوان، ومطلوب منه أن يقرر النزول إلى الشارع مع الإخوان وغيرهم لتشتعل الثورة من جديد.

وعلى الإخوان أن يعودوا خطوة إلى الوراء، ولكننا يجب أن نطالبهم بمنطقية ومعقولية حينما نحدد لهم أبعاد هذه الخطوة.. فليس من المعقول مطلقاً أن نطلب من الإخوان التخلي عن شرعيتهم الكاملة بعد كل هذه التضحيات والدماء، ولا يملك قادة الإخوان هذا القرار أبداً، فقواعدهم لن تقبل به مطلقاً.

ولكن الرأي هو أن يقبل الجميع بعودة “مرسي” حاكماً، كما كان قبل ذلك، وهذا هو الواقع الذي نعود إليه بعد سقوط الانقلاب، ثم يقرر الرئيس “مرسي” إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد ثلاثة أشهر من عودته، وفي هذه الأشهر الثلاثة تستتب أمور البلاد ومؤسساتها، وتبدأ المرحلة الجديدة من انتخابات جديدة كاملة.

هذه هي خطوة الإخوان التي من العقول أن نطالبهم برجوعها، ولا فرصة في خطوة أبعد منها.

وفي مقابلها تأتي الخطوة المطلوبة من بقية الطيف الثوري.

حلم يناير يقترب يوماً بعد يوم، وأمامنا فرصة حقيقية في ثورة ثانية، ثورة ثانية حقيقية، ليست مدعاة ولا كاذبة كسابقتها في يونيو، ثورة تعيد الحياة إلى ثورة يناير الأولى، وتعيد الرفاق معاً، ليهتفوا معاً: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

 

Exit mobile version