هل يمكن قمع الثورة في مصر؟

هناك دراسة أمنية إستراتيجية صهيونية، صدرت – منذ سنوات قليلة – النسخة العربية منها عن مكتبة الشروق الدولية، للمؤلف الصهيوني “داني بركوفتش”، بعنوان “هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟

هناك دراسة أمنية إستراتيجية صهيونية، صدرت – منذ سنوات قليلة – النسخة العربية منها عن مكتبة الشروق الدولية، للمؤلف الصهيوني “داني بركوفتش”، بعنوان “هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ معركة إضعاف حزب الله”، ويعرِّف المؤلف في هذا الكتاب “الهيدرا” بأنه كائن خيالي له سبعة رؤوس، كلما قَطَعْتَ رأساً منها نبت مكانه رأسان، ومثلما يستحيل التخلص من رؤوس الهيدرا يستحيل اقتلاع المقاومة، ويستحيل القضاء عليها.

وبرأي المؤلف؛ أن هناك ثلاثة عناصر رئيسة ترتكز عليها قوة المقاومة، ولو تم إضعافها فسيتم إضعاف المقاومة، وهي:

أولاً: قوة العقيدة والإيمان، التي ينتج عنها التمسك بالمقاومة بأي ثمن.

ثانياً: قوة التجذر الشعبي للمقاومة وقدرتها الكبيرة على التوسع الاجتماعي.

ثالثاً: قوة الروابط الإقليمية بين جماعات المقاومة وبعض الدول المؤيدة.

فقوة العقيدة والإيمان تتبدى ملامحها في حب الشهادة والاستشهاد، التي أصبحت مجالاً تنافسياً بين الثوار، لقد أصبح “الشهيد” بدلاً من “القتيل”، هو ما يتم تداوله وقبوله بين كل الفئات الثورية، واستطاعت الثورة تعميمه في الفكر والوجدان والإعلام، عبر الكتابات بفضل الشهادة والشهيد، وعبر الرؤى والمشاهدات الحية التي رآها أصحابهم وأقرباؤهم تتحقق عياناً في الميادين، وهي إحدى الكرامات للشهداء، التي عمّقت مفهوم الشهادة، وحببت الموت بهذه الطريقة بين فئة الشباب على وجه الخصوص.

وقوة التجذر الشعبي اكتسبتها الثورة من قوة انتشار الفصيل الأكبر في المقاومة – الإخوان المسلمون – وانتشاره في ربوع القرى والنجوع، حتى أصبحت ترى فعاليات الثورة تتم الآن في القرى البسيطة، والنجوع البعيدة، أضف إلى ذلك انضمام فئات كثيرة من الشباب المثقف الواعي غير المرتبط بأي خلفيات أيديولوجية، ولكن أحلامه في الديمقراطية دفعته للدفاع عنها.

وقد ساعد رؤوسُ الانقلابيين الثورةَ على التجذر في المجتمع والانتشار من حيث لا يشعرون، خاصة حينما قابلوا هذا الطوفان البشري المناهض للانقلاب بمزيد من العنف والقتل والسجن والمطاردة، فأصيبت كثير من البيوت المصرية في أبنائها أو ذويهم، حتى أصبح كثير ممن كان راضياً بالانقلاب معارضاً له؛ بعدما أصيب في أهله وولده أو أقربائهم، وأصبحت القضية قضية دم؛ لا يسقط بالتقادم، ولا يُنسى بمرور الزمان.

أما قوة الروابط الإقليمية بين جماعات المقاومة وبعض الدول المؤيدة، فقد استطاع بعض رجال الثورة – ممن كانوا في حكومة “د. محمد مرسي”، واستطاعوا الخروج من مصر – عبر جولات مكوكية أن يفرضوا رأياً عالمياً في بعض الدول التي زاروها، وأن يوجدوا مؤيدين للحرية والديمقراطية في مصر، وما خطاب رئيسة دولة الأرجنتين في اجتماع الأمم المتحدة الأخير عنا ببعيد.

كما يظهر ذلك من وجود بعض الدول الرافضة للانقلاب في مصر، أو المتعاطفة مع الثوار، مثل تركيا على طول الخط، وقطر في بعض سياساتها لا كلها.

ونستطيع القول: إن طوائف الشعب المصري وحركاته الثورية وأحزابه السياسية الطامحة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والكرامة الإنسانية، جمعت بين هذه القوى الثلاث، وإن كان بنسب متفاوتة، إلا أنها في مجموعها تجسد واقعاً لا يمكن تجاهله، بل استطاعت أن تفرض رأياً عاماً ليس على المنطقة بأسرها بل على العالم كله، أثبتت من خلاله أن الشعوب إذا أرادت الحياة فلا قوة يمكنها أن تقف أمامها، وبدا ذلك جلياً في الأمور التالية:

– استمرار التظاهر بأعداد كبيرة وفعاليات أكثر على مدى عام وثلث العام تقريباً (ستة عشر شهراً = 480 يوماً) منذ بداية الانقلاب في الثالث من شهر يوليو 2012م.

– انتشار جغرافي واسع لرافضي الانقلاب في جميع أنحاء القطر المصري، وفي كثير من دول العالم، وهم يجاهرون بقضيتهم عبر المؤتمرات والوقفات والمعارض والمسيرات.. إلخ.

– نجاح الحراك الثوري في إيصال رسالة إلى الخارج بأن الوضع داخل مصر غير مستقر، وهو ما تبدى في تراجع أعداد السياح بنسبة تقترب من 80%، وضعف الاستثمارات الأجنبية التي تدخل البلاد نتيجة عدم استقرار الأوضاع.

– قدرة الحراك الشعبي حتى اليوم على الحفاظ على السلمية برغم عنف حكومة الانقلاب في التعامل مع المتظاهرين ورافضي الانقلاب عموماً، سواء في قمع التظاهرات أو ملاحقة المتظاهرين وسجنهم أو إصدار أحكام تعسفية بحقهم.

– دخول كثير من شرائح المجتمع المصري من الرجال والنساء والأطفال، وقطاعاته الطلابية والعمالية والخاصة والعامة في التظاهر ضد الانقلاب.

– استطاعت “ديمومة الثورة” أن تكشف الأقنعة عن كثير من النخب المصطنعة، والأوجه العميلة، وأصحاب المصالح.

– بات كثير من المواطنين ينظرون إلى الانقلاب نظرة “عداء”، حيث أصبحت كثير من بيوت المصريين “مكلومة” بابن أو أب أو أم أو أخت أو قريب، إما بين السجون والمعتقلات، أو مطارداً من مكان إلى آخر، أو مصاباً جراء القمع الأمني، أو شهيداً برصاص الغدر، فأصبحت القضية قضية “دم” – كما قلنا – وإذا كان الصافع ينسى ما لا ينساه المصفوع، فما بالك بالقتيل والأسير والمصاب؟!

– تنامي الثورة الطلابية وتجذرها، وخوف مؤسسات أمن الانقلاب من “بعبع” العام الدراسي الجديد، بدا ذلك في تأجيله قرابة الشهر، والاتفاق مع شركات أمنية خاصة لقمع الثورة الطلابية داخل الجامعات، ولكن كل ذلك لم يزد الطلاب إلا إصراراً على مواصلة الكفاح بل وتناميه وتجدده يوماً عن يوم، حتى رأينا من الطلبة من يكتب وصيته ويمضي غير عابئ بما يناله.

من يؤثر الحـقّ يبذل فيه  طاقتـه         ومن يكن همّه أقصى العلا يصـل

لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت        من الضعف واستعصت على الكسل

هـذا مجالك فاركض غيـر متّئـد        وإن رأيت المنايـا جـوّلا فجــل

– زيادة الحنق الشعبي على الانقلاب وقادته بصورة ملحوظة، بدا ذلك واضحاً في الأمور التالية:

1- تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ مما حدا بأكبر الشركات العالمية إلى إغلاق مكاتبها ومصانعها، وجعل كبار المستثمرين يخرجون من مصر إلى غيرها من الأسواق العالمية، وهو ما أسهم بشكل فعال في استمرار الاحتجاجات وزيادة الضجر الشعبي.

2- ارتفاع أسعار كثير من المواد الغذائية والاستهلاكية من ثلاثة إلى خمسة أضعاف سعرها، واتساع أزمة الوقود والكهرباء بين الحين والآخر، بحيث أصبحت معاناة يومية في كل ربوع البلاد.

3- انتشار حالة من الفوضى الأمنية في كثير من المحافظات، وتحكم البلطجية في العديد من الطرق، وفرض إتاوات على سائقي السيارات الأجرة.

هذا كله فرض على الجهات السيادية الأمنية – مؤخراً – أن تحذر قائد الانقلاب “عبدالفتاح السيسي” من احتمال تزايد الغضب الشعبي ضد سياساته الأمنية والاقتصادية في الفترة القادمة.

وأخيراً، فإن تحركات قادة الثورة ورموزها لا ترتكز على فرد مهما علا نجمه، أو قائد مهما علا صيته، أو زعيم مهما كثرت شعبيته، وإنما هي تعتمد أساساً على قوة حراك شعبية من الصعب القضاء عليها إلا إذا تم القضاء على الشعب نفسه، كما أن هذا الحراك الشعبي هو الذي يفرز صفوفاً متعددة من القادة، كما قال الشاعر:

إذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ            قَئولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ

أنا لا أقول: إن الثورة نجحت، ولا هي في الجانب الآخر فشلت، ولكني أزعم أنها ماضية على الطريق، تحقق نجاحات كثيرة، وتعاني من إخفاقات عديدة، فلا يمكن أن ننظر إلى الجانب السيئ منها دون الإيجابي، خاصة وأن أعداءها – من الانقلابيين ومن في معسكرهم – يروعهم – برغم ما يخططون ويبذلون لمحقها – أن تحقق الثورة كل هذا الصمود والتحدي، وأن تظل محافظة على الدرب طوال هذه الفترة، وأن تكسب كل يوم أنصاراً جدداً.

ومن هنا أقول: إن الثورة لا يمكن أن تموت لأنها حق، والحق لا يموت أبداً.

 (*) كاتب صحفي

Exit mobile version