كأنه المتنبي

زارني بعد منتصف الليلة قبل الماضية زائر غريب اليد واللسان، لكن خطواته منظمة كأنما هي تفعيلات البحر “الوافر”

زارني بعد منتصف الليلة قبل الماضية زائر غريب اليد واللسان، لكن خطواته منظمة كأنما هي تفعيلات البحر “الوافر”، رافعاً رأسه موزونة كلماته، وسلم عليَّ شعراً أو ما يشبه الشعر، وقال كلمات عربية تحاملتُ على نفسي لأتمكن من فهمها، وكان يهز رأسه مستهجناً من لكنة السامع لا من لكنة المتحدث طبعاً.

أومأ إليَّ بعد أن قرن بيديه بين السبابتين ثم قال كلاماً جميلاً تراقصت كلماته على آلامها جعلتني أردد بعضها كأنني القائل.

مما أذكره في إشاراته الغريبة التي زادت دهشتي دهشة قوله:

ولما صار ود النَّاس خِبــــــاً            جَزيت على ابتسام بابتسام

وصرت أشك فيمن أصطفيه          لعلمي أنه بعض الأنــــــام

وآنف من أخي لأبي وأمـي           إذا ما لم أجده من الكـــرام

فاستوقفته وقلت له: هل أنت من أهل هذه المدينة قال: لا.. أنا مازلت هائماً على وجهي منذ مائة وألف عام.

تأملته جيداً وهو دائم الحركة والوثب، غلبني بصوته الجهوري، وبلاغته التي لا ترد، ومنظره المدهش، ثم بدأ يذوب كما الثلج، ولكن ابتداءً من قدميه حتى تلاشى ولم يبق إلا رأسه، ولسانه يردد شعراً حفظته ولم أفهمه في حينه قائلاً:

يحب العاقلون على التصافي           وحب الجاهلين على الوسـام

أرى الأجداد تغلبها كثــيــراً              على الأولاد أخلاق اللئـــــام

عجبت لمن له قــدٌّ وحَــــــدٌ             وينبو نبوة القـضم الكــــــهام

ثم قال آخر كلمة وقد بدا يتلاشى حتى اللسان نفسه:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً          كنقص القادرين على التمام

وزائرتي كأن بها حيــــــــاءً               فليس تزور إلاّ في المســاء

وقال بصوت عالٍ زلزل المكان وبكى:

ذهـــب الذين أحبهــــم

فقلــــت: لا أدري كيــــف؟

وبقيت مثل السيف فرداً

فهمت خطابه متأخراً واستدرك اللسان: سيزورك غيري قريباً، فهل توافق؟ وأذن الفجر الأول.

 

 

Exit mobile version