عسكرة الجامعة!

قبل ثورة يناير كان أساتذة الجامعة يكافحون من أجل استقلالها وتحريرها من سيطرة ما يسمى الحرس الجامعي الذي كان غطاء لجهاز أمن الدولة

قبل ثورة يناير كان أساتذة الجامعة يكافحون من أجل استقلالها وتحريرها من سيطرة ما يسمى الحرس الجامعي الذي كان غطاء لجهاز أمن الدولة، والسعي الحثيث ليختار الأساتذة رؤساءهم وقادتهم في القسم والعمادة والإدارة اختياراً حراً يحقق التوافق، ويقلل الخلافات والصراعات التي يحتمي طرف منها عادة بسلطة الأمن الباطشة، حيث لم يكن خافياً تأثير المخبر وأمين الشرطة والضابط على الجامعة وأساتذتها الذين يمثلون صفوة المجتمع!

بعد ثورة يناير 2011م، تم إخراج الحرس الجامعي من حرم الجامعة، وقام الأساتذة باختيار قياداتهم اختياراً حراً نزيهاً، ولأول مرة منذ عقود يمارس الطلاب حريتهم في التعبير عن آرائهم، ويجلس قرابة خمسة آلاف طالب من مختلف التيارات مع الرئيس الشرعي “محمد مرسي” – فك الله أسره – ويناقشونه بمنتهى البساطة، ويعرضون عليه مشكلاتهم بمنتهى الصراحة، وتبدأ الجامعة في التنفس والمشاركة في حركة البحث العلمي الجاد والتنافس على مستوى الجامعات الإقليمية والدولية؛ حتى لو كانت النتائج متواضعة.

بعد الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، تم اعتقال مئات الأساتذة الفضلاء، واتهامهم بتهم ملفقة مفضوحة، وحكم على العشرات منهم بالإعدام والسجن المشدد لمدد طويلة، وتم فصل أعداد غير قليلة ممن لم يقعوا في قبضة الانقلاب أو يعيشون في المنافي هرباً بحياتهم، مع إلغاء الانتخابات، وإصدار قرارات استبدادية ظالمة تمنح رئيس الجامعة المعين من قبل سلطة الانقلاب بعزل الأساتذة الذين لا يؤيدون الانقلاب ولا يهتفون له، فضلاً عن فصل الطلاب دون تحقيقات أو مجالس محاكمة، وكل ذلك بمخالفة الدستور الانقلابي الذي وضعوه في غيبة الشعب وخاصة المواد (15، 16، 62) وغيرها، وصارت تهمة “الأخونة” من التهم الجاهزة التي ينتقم بها بعض الانتهازيين من زملائهم أو من الطلاب، وتحول الحرم الجامعي إلى ثكنة عسكرية تمرح فيها المصفحات والمدرعات وتتواضع إلى جانبها معسكرات الجيش.

تمت إقالة رئيس جامعة المنيا المنتخب بتهمة أنه من الإخوان، وصدر قرار من أعلى سلطة ينزعه من منصبه، ويعين آخر موالياً للانقلاب بديلاً له.

تم تعيين ستة رؤساء جامعة من الموالين للانقلاب بعد انتهاء مدتهم القانونية بقرار فوقي لا يأبه بإرادة الأساتذة ورغبتهم.

تم إيقاف عميد إحدى كليات اللغة العربية بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين – وهي تهمة غير صحيحة – لأن بعض زملائه المنافقين الأفاقين رأوا أنه من الممكن أن ينافسهم على رئاسة جامعة الأزهر، وبالطبع السلطة الانقلابية ترحب بهذه التهمة وتأخذها مأخذ التسليم الذي لا يقبل الجدل مهما كان صاحبها بريئاً منها.

تم سحب درجة دكتوراه من صاحبها بجامعة الأزهر لأنه استخدم وصف الانقلاب في رسالته، وأدان الإعلام الموالي له والليبراليين الذين انقلبوا على مبادئهم، وقيل: إن التحقيق سيشمل الطالب واللجنة التي منحته الدكتوراه بعد مناقشة علنية، وإيقاف الدراسات العليا بكلية الدعوة التي ينتمي إليها الطالب، وتشكيل لجنة لمراجعة جميع الرسائل التي نوقشت فيها.

هذا الإرهاب الفكري أو المكارثية الجديدة ضد الجامعة سلوك غير مسبوق، ولم يحدث من قبل لا في زمن الاحتلال الإنجليزي، ولا في زمن الطاغية المهزوم دائماً “جمال عبدالناصر”، بل إن عهد الكنز الصهيوني الإستراتيجي المخلوع كان أقل حدة مما يفعله الانقلابيون العسكريون الدمويون الآن!

إن إرهاب الأساتذة والاعتداء على حرية الرأي والفكر، ومصادرة البحث العلمي جريمة كبرى تخالف الدساتير والقوانين والمواثيق العالمية والدولية، وكنا نتمنى أن نسمع صوتاً من مثقفي السلطة وأبواقها الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حين تتم مساءلة زنديق مهووس أو ملحد بائس أو شيوعي أفاق وهو يسب الذات الإلهية – وليس الانقلابية – ويسيء للأنبياء ويزدري الأديان، فيملؤون الدنيا ضجيجاً عن الرجعية والأصولية والعقول المتحجرة التي تحارب حرية التعبير وحق الإبداع.

ثم كانت الطامة الكبرى بالإعلان عن تعيين مخبرين من الطلاب “الوطنيين!” ليشوا بزملائهم الذين يعارضون الانقلاب تحت مسمى الإبلاغ عن المظاهرات، كان المخبرون من الطلاب الأمنجية يعملون في الأزمنة السابقة سراً ودون إعلان، ومع ذلك كان الطلاب يعرفونهم ويحتقرونهم، ولكنهم الآن يعملون تحت مظلة علنية، ويمنحون صفة الوطنية.. يا للعار! طالب يعمل مخبراً ليكون مقرباً من أجهزة القمع التي توفر له الرعاية، وتعمل على مساعدته حتى يكون في منصب مرموق عقب تخرجه بعد أن باع نفسه للسلطة الفاشية القمعية، وربما وصل بعضهم مستقبلاً إلى مناصب كبرى منها منصب الوزارة.

قبل أيام، احتلت قوات الحرس الجمهوري جامعة القاهرة، ومنعت الدخول إليها لمدة يومين، لتأمين احتفال أمني قيل: إنه لتكريم الطلاب الفائقين، تم اختيار عشرات الطلاب الذين سيحضرون الاحتفال على الفرازة، ولم توجه الدعوات لاتحاد الطلاب ولا لرموز الحركات الطلابية، كما تم اختيار الأساتذة الموالين للانقلاب ولاء لا شك فيه، وجرى منع أجهزة الإعلام المحلية والدولية من حضور الاحتفال، وحدها كانت الدبابات والمصفحات هي التي تملأ الحرم الجامعي الذي لم يعد حرماً!

في الاحتفال؛ دعا قائد الانقلاب الطلاب إلى الالتفات نحو تحصيل العلم وعدم الانخراط في أي أنشطة سلبية أو الانجراف وراء أفكار هدامة تستهدف النَّيْل من مقدرات الوطن، بعض المعلقين فسر تلك الدعوة بأنها تنبيه للطلاب أن يمشوا بجوار الحائط، وإلا..!

الآخرون فسروا المسألة بأن قائد الانقلاب يحذر الطلاب من عدم الاقتراب من الإسلام أو الالتزام به أو الدعوة إليه أو التماهي معه داخل الجامعة أو خارجها.. باختصار عدم التعاطي مع السياسة بأي صورة!

بالطبع كان هناك كلام إنشائي مكرور عن مشاركة الطلاب والشباب في الحياة الاجتماعية، وتخصيص 50% للشباب في المجالس القومية، ولكن هذا الكلام لا يعبر عن شيء ذي معنى، بينما قائد الانقلاب يطلب من الشباب الجامعي أن يمشوا جنب الحيط، ويتخلوا عن الأفكار المزعجة لسلطته الفاشية!

تساءلت عن أساتذة الجامعة الذين مهدوا لثورة يناير: أين هم؟ أين جماعة 9 مارس؟ لقد شارك بعض أعضائها المشهورين في انقلاب 3 يوليو، ومنهم من وعدوه برئاسة مجلس النواب القادم، ومنهم من نال نصيبه في التشكيل الوزاري الانقلابي بعد أن قام بدوره في تقنين القمع والاستبداد، ومنهم من اكتفى بالظهور الإعلامي على منابر النظام.. أما من بقي على العهد، فإما دخل السجن أو عرف المنافي أو وجد نفسه وحيداً في التيه الظالم المظلم!

عسكرة الجامعة شذوذ لا مثيل له في العالم الحر، ولن يبقى طويلاً؛ لأنه يعوق عقل المجتمع عن التفكير والبحث والعلم والعمل، وكما فشلت العسكرة من قبل ستفشل العسكرة من بعد بإذن الله تعالى.

 

Exit mobile version