ما أجملنا.. وعيدنا القادم

أول عيد فطر بعد ما اصطلح على تسميته بثورة 25 يناير، أو “المقلب” الذي أسقيناه المجلس العسكري، وشربه قرابة 88 مليون مصري بجدارة

أول عيد فطر بعد ما اصطلح على تسميته بثورة 25 يناير، أو “المقلب” الذي أسقيناه المجلس العسكري، وشربه قرابة 88 مليون مصري بجدارة، ففرحنا، وهللنا، وانتفضنا، كما العصفور بلله القطر، ولا أنسى كلمات نسيبي الغامرة الفرحة عن كون جيشنا ليس كجيش سورية، وماذا نفعل له إن كان جيشاً وطنياً؟ ولذلك فإن الله تعالى يحبنا، يومها فقط قلت له: إن الأمر لا علاقة له بمحبة الله، وإنه تعالى إن ابتلى السوريين فإنه لا يكرههم، وبقيت في النفس أسئلة.

أول عيد فطر بعد الثورة هرولت مع أسرتي إلى مصر، وصليت العيد في القاهرة وسط أجواء احتفالية لم أرَ مثيلاً لها من قبل، ازدحم الطريق بالمصلين والمصليات، وتمددوا حتى أغلقوا الشارع الرئيس في المنطقة، وجلجل صوت الإمام: “تقدموا”، فهو أول عيد يمر على مصر بعد اندحار الطاغية “مبارك”، ونريد أن نشارك في ثورتنا بالنظام، وأقسم الخطيب أنه جاء من المملكة العربية السعودية مباشرة إلى المصلى ليرى الله تعالى فرحته بالعيد، وأفاض في ذم نظام الطاغية “مبارك”، وذكر أنه كان ممنوعاً من العمل والخطابة في مصر بلده لولا ثورة جرت فيها دماء الشباب.

كنت أستمع في حبور شديد إلى كلمات الإمام، وأرصد نبض الفرحة في صوته، وقرب أبرز آثار مصر يحتار العقل مني، هل يقدر الدكتور الفاضل قيمة المسؤوليات الملقاة على عاتق هذا الشعب بعد 25 يناير؟

هذه الأرض التي ارتوت فساداً.. هل الثورة سيسقيها العدل حتى ينظفها.. ثم تعيد ريّها بالعدل في أيام لأن الثورة نجحت؟

وهل من استفادوا من الأنظمة القهرية سيصمتون؟ وهل شعبنا واعٍ يستطيع التصدي والبناء؟

أثناء جريان معانٍ ترجمتها كلمات محيرة كتبت بعضها وضاق الصدر حينها والآن بالبعض الآخر.. سعدتُ بتوزيع شباب الإخوان “بلالين” مرسوم على بعضها شعارهم.. وتهانٍ بالعيد، ولم أكن أتخيل ما يعده الطغاة للأيام المقبلة.

عقب الخطبة التقيتُ عدداً من أصدقاء الصبا ومهد الشباب، العزيز د. نبيل فولي، وقد جاء من جامعته بباكستان، الجميل د. محمد عادل، وقد جاء من المملكة، المهذب د. عبدالله يوسف، وقد جاء من الكويت.. شيء لا يصدق، وكنت في إجازة من عمل بدولة خليجية.. بادرني د. عادل سائلاً عن تهجمي؟ فقلتُ: إن التحدي كبير.. فقال بسرور صوته الدائم، وبحته الواثقة: الله أكبر يا فلان.

لحمة ورباط وطني نادران..

وآمال ما كان أعظمها لولا التفاف الذئاب على القطيع.. للأسف كنا قطيعاً..

كانت أخبار سورية تحزن قلبي وتدميه، ومن بعيد كنتُ أشعر أننا بتخاذلنا سنعاقب، وكان الأصدقاء يفيضون في مدح جيشنا، وأتت بعد العيد أعياد.. تسللت المرارة فيها وعبرها إلى الحلق، فترهل الشعور بالحرية لما أطلت المنافسة على الحكم، ورأيتُ بلدي يتنازعه مواقف لفسدة يحاولون العودة، وشرفاء يرون أنفسهم أهلاً للمسؤولية، ومع رغبتي الاستقرار في مصر، ومعارضة الأصدقاء ممن ابتهجوا بترشيح الشرفاء للرئاسة، كان فضاء الأسئلة يزداد رحابة داخل النفس، بل بدت أشعر بأن الحبل يلتف حول العنق فيما العين مغماة..

ولما أعلن رسمياً عن ترشح الشرفاء التاع قلبي، وكتبت ذلك في حينها، ولست بالمحنك سياسياً، ولكني لاحظتُ أموراً أجلها ما كان في شارع “محمد محمود” 1، و2.. وتعليقات الراغبين في الترشح أنفسهم، وكونهم مستهدفين.. وهل يضع المستهدف نفسه أمام فوهة المدفع لينجو؟

وكان أخطر الخطر في عينيّ يومها، تركة الفساد والتسيب بل الأمية والجهل المنتشر في مصر.. كيف سيقضون على كل هذا.. وبأي آلية؟

وكان ما كان..

ورأيتُ كيف تبتلع الدولة السفيهة محاولات المضي بها نحو المستقبل، وتخبط الأيدي والعقول في المواجهة، بل عاصرتُ ما بعدها، والألم الهائل لناس كانت لهم في القلب منزلة، وما تزال لكثير من شرفائهم، ولكن صوتاً للمراجعة إن بدا يحزنون، ويقال إليك: تسيء، ورأيت ثورة على أنقاضها تنصب مغارف لنيل مصالح ضيقة، وبخاصة بعيداً عن الميدان، وأحمد الله أن عافاني من الأمر ولو من بعيد، أو قليل القليل من قليل..

إن الكرة ما تزال في الملعب، وعذراً للتشبيه، لكنها بعيداً عن المرمى الذي تريد تسجيل هدف مبكر فيه فتأخر حتى توشك المباراة على الانتصاف، وإن تقصيراً ليس عن خيانة والعياذ بالله قد بدا من الصف وما يزال يستشري، وإن أقواماً بين جلدتنا همهم الأساسي مصلحتهم، وإن سر البعض التعبير عنهم بكلمة البعض قلتها، وإن هؤلاء لا يراعون الله في الدماء التي تسقط آناء الليل وأطراف النهار في مصر لنصرة قضية المفترض أن الساعين خلف مصالحهم الضيقة هم أول من ينصرونها، وإن إعلاماً ينبري بعض من يرون أنهم من رواده فيملؤون الجو غباراً لئلا يروا، أو حتى يقيموا.. لهم جزء من مأساة اليوم، وإن الثعالب الصغيرة التي أطلت برأسها للأسف في صف الشرفاء لتستحق التمهل والدراسة بقسوة.

إن في الصف، وفي قلب قلبه لمعوقين، إن أحسنا التعبير، واخترنا أفضل الكلمات، أما إن وصفنا الواقع كما ينبغي فإن خونة تسيدوا الموقف، مهما كان عددهم قليلاً، وأستغفر الله تعالى من رمي جل الشرفاء بهذا الوصف، ولكن التجربة كانت مرة جداً، وإن وصف كل من يرتفع صوته بالإشارة إلى علل وأمراض بأنه خائناً أو شيئاً من هذا القبيل، مهما حاول الترفق في القول، لهو أكبر دليل على تعمق الجرح الفاسد في نفوس “البعض” ربما بحسن نية، وربما لا..

ومن أعجب العجب أن ترى في صف الشرفاء الآن متكبراً، بل ربما مسؤول متكبراً، للعقوبة التي توعدها الله للمتكبرين من ناحية، ولحال الأمة الذي لا يخفى على فطن من ناحية أخرى، وليت شعري كيف يحيا من يحمدون لأنفسهم أنهم لم يعتقلوا أو يستشهدوا أو يصابوا أو يفصلوا من أعمالهم لا هم ولا أقاربهم.. ثم يتولون قيادة في الصف؟

 إن التآمر على الشرفاء، وقد أبيت على نفسي أن أكتب اسماً صريحاً من فرط الألم النفسي الذي نالني من تعقيبات أناس أحبهم وأجلهم منهم لما نقلوا عن “البعض” فهمه لما كتبت من قبل، لا ما قلت، وما أكثر ما تنشر كلمات فيها من ظلال أنفسنا على ما لا نحب من نقد، وأجمل ما يقال لك.. ليس هذا وقته.. ومتى وقته؟ لا تجاب.. وقل عسى أن يكون قريباً.. جواب السكون..

إن كلمتا.. “ما أجملنا” اليوم على لسان الأحباب من الشرفاء، لتكادان تنهيان المعركة لغير صفهم من أسف، ومن لا يرى هذا فالشأن شأنه، ولن نصمت، ولو أحبوا صمتنا، ويقصي أحدنا نفسه بنفسه إن رأى الصف لا يرحب بكلمة حق يقولها في سبيل محبة الحق الذي هو اسم من أسماء الله تعالى لا محبة فصيل أو مجموعة أو جماعة، فإنما عرفناكم في طاعة الله تعالى، فإن ضقتم اليوم بالهدف الأساسي ما أخرناه لأجلكم، ما أجملنا.. لما تولينا فعدلنا، وقد حاولتم، ولكن من قال: العدل أن تحكم في نفسك فقط، وأنت والٍ على الجميع، وتؤمر فيهم فما تطاع.. ماذا كان علينا أن نفعل؟ ألا تتولوا الأمر، وألا تتولوا عنه، أي تتركوه، وابتغِ بين ذلك سبيلاً، كان سينالها “شفيق” ويفعل هذا الذي يحدث، ومن قال لك: إنك كنت ستنيله مراده؟ ولماذا تستقل بقدرات نفسك؟ قل لي واحداً كان يصلح لها بعد خيانة “أبو الفتوح”؟ الأخير أنت من صغته، والسؤال تعجيزي في ذاته..

تلك أسئلة وإجابات دارت على النفس مرات.. والحقيقة أن من يريد البناء لا يهرول في خطواته، بل يتأنى ويقدر ويهندس وينظم، وتكون له مراكز أبحاث تعينه، لا يسير على الدرب الوعر المظلم.. مكتفياً بأقل الزاد الدنيوي، ظاناً أن الله ناصره، وهو تعالى قادر.. ولكن أين الأخذ بالأسباب، لقد غاظني كلام أساتذة أجلاء عقب الانقلاب أنهم ينتظرون نصر الله، فيما هم يعيدون سيناريو يناير الذي نصره الجيش.. والجيش ليس معهم هذه المرة، ويقولون لك: الله معنا.. ولو صح الأمر لكان مع نبيه، وما هاجر صلى الله عليه وسلم؟

إنها كلمات أتمنى أن ألقى الله تعالى بها خاصة لوجهه..

حجم التحدي ضد شرفاء مصر بالتحديد كان كبيراً.. والتآمر كان خطيراً.. ولكن أخطاءهم ضاعفت المصائب عليهم، وإنهم حتى الآن غير مؤهلين لا لفهم الموقف ولا تجاوزه، وإن الضيق بكل من يشير إلى فرجة قليلة ربما يرى النور ينبلج منها لهو أكبر دليل على أن الحال ستطول.. ومن الشرفاء من هو غير هذا.. ولكن صوته في خضم أصوات تعلي من نبراتها يتلمس الوصول.. ونتمنى أن يصل.. وحتى يحدث هذا.. أعيدوا حساباتكم يرحمكم الله تعالى، وكفى ما كان وما سيكون من متعجل القرارات دون روية..

اللهم إنني أبرأ إليك مما فعل ويفعل العسكر بوطني.. ولا أبرأ إليك مما يفعل وفعل الشرفاء.. إذ إن الأمل منوط بهم ما يزال، أن يغيروا ما سلكوا من طريق أو حتى يعدلوا.. فينالوا كامل رضاك ونصرك.. وما ذلك عليك يا قدير ببعيد وهم أهل له.. ويومئذ نفرح بنصرك سبحانك.. ويومئذ يوم عيدنا الحقيقي.. يوم لا يقولون ما أجملنا..  

Exit mobile version