مصر الانقلابية

من المداخل الأساسية لتحليل الظواهر السياسية، مدخل “تحليل المفاهيم”، ففي كثير من الحالات تكون البداية الأساسية لتحليل الظاهرة تفسير المفاهيم الرئيسة التي تقوم عليها الظاهرة وتحليل مكوناتها الأساسية، ومنذ الثالث من يوليو 2013، ومع صدور بيان الانقلاب ال

من المداخل الأساسية لتحليل الظواهر السياسية، مدخل “تحليل المفاهيم”، ففي كثير من الحالات تكون البداية الأساسية لتحليل الظاهرة تفسير المفاهيم الرئيسة التي تقوم عليها الظاهرة وتحليل مكوناتها الأساسية، ومنذ الثالث من يوليو 2013، ومع صدور بيان الانقلاب العسكرى في مصر، والذي أصدره وزير الدفاع المستقيل في حكومة الدكتور هشام قنديل، الفريق عبد الفتاح السيسي، أصبح المفهوم الحاكم في مصر وحتى الآن هو مفهوم الانقلاب العسكري.

ولن أخوض كثيراً في التحليلات النظرية لهذا المفهوم فهي محل لاهتمامات الكثيرين من الباحثين والمحللين، ولكن سأركز في السياق حول خصوصية الحالة المصرية في العملية الانقلابية، فهذا الانقلاب، وفق هذه الحالة، قام به مجموعة من أصحاب المال والأعمال وأصحاب المصالح في مؤسسة تهيمن على نحو 60% من اقتصاد الدولة، تعمل في كل شيء وتنتج كل شيء، بداية من المعدات الحربية وحتى السلع الغذائية، كانت تُعرف سابقاً باسم المؤسسة العسكرية، ولكن هذا الاسم لم يعد محلاً للاهتمام والتقدير منذ آخر حرب عسكرية حقيقية شاركت فيها هذه المؤسسة في السادس من أكتوبر 1973، أي منذ أكثر من أربعة عقود ماضية، وبدلاً من أن تصبح رمزاً للعزة والكرامة، ومصدراً للأمن والاستقرار، بحكم ما يجب أن تقوم به من أدوار، أصبحت رمزاً للفساد والاستبداد، ومصدراً للقمع والقهر في مواجهة كل القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية والحضارية.

 وحتى تحقق هذه المؤسسة هيمنتها، كان لابد لها من أدوات مساعدة، فكان لا بد من وجود من يضع الدساتير ويسن القوانين والتشريعات، وهنا شكلت بعد انقلاب الثالث من يوليو ما اسمته “لجنة الخمسين” وبدأت منذ شهور في الإعداد لتشكيل ما أسمته “مجلس النواب”، ليكون ذراعها التشريعية، وبطبيعة الحال سيكون تكوينه من المخلصين لها المدافعين عن سيطرتها وهيمنتها، من كل المفسدين في دولة مبارك وكل المتاجرين بقيم ومبادئ الحرية والكرامة والديمقراطية، من نخب فاسدة، أكثر ما يعنيها هو مصالحها الذاتية ومكاسبها الشخصية.

ومع الهيمنة على واضعي القوانين والتشريعات تأتي أهمية الهيمنة على من يقومون بتنفيذها، ممثلين في الوزراء والمحافظين والجهاز الإداري وأجهزة الحكم المحلي، وهؤلاء مشهود لهم دائماً بأنهم أجنحتها في ممارسة الفساد بل والإفساد طوال العقود الأربعة الماضية. ثم الهيمنة على من يقومون بالتقاضي بهذه الأحكام ليكونوا أداتها الردعية بإصدار الأحكام الجائرة في حق كل من يعارض هيمنتها ويحاول مقاومة فسادها واستبدادها.

ولن تكتمل الصورة إلا بالعمل الجاد على تأميم الدين (الأزهر والكنيسة والأوقاف، والمساجد) وتأميم الجامعات (عبر تعيين رؤسائها، وعمداء كلياتها ومعاهدها، والتدخل في عمل مراكزها البحثية وتحديد مقرراتها التعليمية)، وتأميم الإعلام، لتصبح كل الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة بل والحزبية أداة من أدوات الحشد والتعبئة وتشوية المنافسين ونشر الفتن والشائعات وبث الفرقة والتقسيم والازدراء والتحقير لكل من تُسول له نفسه ليس معارضة سلطة الاستبداد ومؤسسة القهر والفساد، بل فقط من يتجرأ على التحفظ أو إظهار القلق والضيق من ممارساتها. وحتى تسير في خطواتها بكفاءة وفاعلية لابد من هدف كبير وفزاعة هائلة يخشاها الفاسدون في المنطقة، وخارجها، فكان الهدف هو القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، والفزاعة هي “الحرب على الإرهاب”، وهذا الهدف وتلك الفزاعة ستجد خلفها الكثير من الداعمين بل والممولين والمخططين والمشرفين والمنفذين، ولما لا والمُستهدف (الإخوان) يشكل نجاحه في مصر تهديداً لأمن واستقرار بل ولشرعية معظم النظم السياسية في المنطقة. ولذا تدفقت المليارات (بشكل مباشر أو غير مباشر) على قائد الانقلاب ومؤسسته وتوفير كل صور الدعم اللازمة له (سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وعسكرياً وأمنياً) حتى ينجح في مهمته التي جاء من أجلها والتي تم الإعداد لها منذ 11 فبراير 2011، وكان هو مجرد أداة للتنفيذ، في يد من خطط وأدار المشهد المصري من الخارج والداخل.

 

Exit mobile version