أبعاد الجدل حول مقاومة “إسرائيل” في العالم العربي

تحولت المقاومة ضد “إسرائيل” من عمل مقدس لدى الشعوب العربية إلى دائرة الجدل والاستخفاف والشك في فعاليتها

تحولت المقاومة ضد “إسرائيل” من عمل مقدس لدى الشعوب العربية إلى دائرة الجدل والاستخفاف والشك في فعاليتها، وقد بدأت المقاومة الفلسطينية المسلحة امتداداً للمقاومة النفسية للمشروع الصهيوني عام 1965م بمساعدة “عبدالناصر” الذي رأى أن المقاومة حق للشعب الفلسطيني؛ فاضطر الآخرون في العالم العربي إلى مجاراة “عبدالناصر”، وأدركت ذلك “إسرائيل” فقضت على “عبدالناصر” ومشروعه، ولذلك كانت هزيمة عام 1967م هي أكبر ضربة للمقاومة الفلسطينية؛ لأن المقاومة تعمل عادة في حماية الوسط العربي والجيوش العربية، وبديل عن هذه الجيوش في مهام معينة وعند عوائق معينة لاستخدام الدول لجيوشها.

عندما قامت المقاومة اللبنانية عام 1982م ضد غزو “إسرائيل” لبيروت التف اللبنانيون والعرب حولها، وتوج نصر المقاومة بطرد “إسرائيل” من جنوب لبنان دون مقابل سياسي، وهنا أدركت “إسرائيل” أن “حزب الله” وسورية وإيران هم الخطر الأكبر، ولابد من اقتلاعهم جميعاً؛ فبدأت الخطط الفعلية بضرب “حزب الله” وتأليب الوسط اللبناني ثم العربي عليه، والدليل على ذلك مقارنة صورة السيد حسن نصرالله عام 2006م عندما تصدى لـ”إسرائيل” رغم انحياز أركان النظام الإقليمي العربي ضد “حزب الله”، وصورة السيد حسن اليوم بعد مأساة سورية وتوريط الحزب بهذه المأساة، ثم تحويل الصراع في هذه المنطقة من صراع عربي إسلامي ضد الغاصب الصهيوني، إلى صراع عربي عربي وإسلامي إسلامي على أساس الطائفة، وعلى أساس العرق والمواقف السياسية، عند هذه النقطة تحولت “إسرائيل” في خطتها ومشروعها من توريط المقاومة وتقليم أظفارها وعزلها عن بيئتها العربية والإسلامية إلى تصفية المقاومة وإثارة الجدل حولها في إطار برنامج التصفية، وبينما يحمد لكل الأطراف اللبنانية أنها قفزت فوق خلافاتها، واتحدت ضد إبادة “إسرائيل” لغزة، فإن المشهد في مصر يدعو إلى الرثاء لدرجة أغرت البعض بأن يعتقد أن “إسرائيل” هي التي هيَّأت هذا المشهد الرسمي والشعبي حتى يصبح أحد أهم الفرضيات لإبادة غزة وتصفية المقاومة الفلسطينية، ولكن المقاومة ليست في حي منعزل حتى نحصر النزال بينها وبين “إسرائيل” في هذا الحي.

وقد ارتبط هذا التحول في وضع المقاومة بنجاح المخطط “الإسرائيلي” في تحويل بيئتها الداخلية والإقليمية إلى بيئة معادية، بحيث أصبحت المقاومة عبئاً على وطنها في لبنان وفلسطين.

وإذا كانت المقاومة حقاً للأفراد والشعوب دفاعاً عن حق البقاء ضد ما يهدد هذا البقاء، فإن كل مقاومة لها ظروفها وأوضاعها في الممارسة، وتحكمها عوامل معينة لا يمكن الفكاك منها، كما لا يمكن المقارنة في الظروف بين المقاومات المختلفة، فالمقاومة الفرنسية ضد الألمان، والأوروبية ضد الألمان والطليان في الحرب العالمية، والمقاومة الفيتنامية ضد الغزو الأمريكي لفيتنام، تختلف فيما بينها كما تختلف جميعاً عن المقاومة الفلسطينية ضد “إسرائيل” وكذلك اللبنانية، فالعبرة في هذه الحالة بوضع “إسرائيل” وتحالفاتها الدولية والإقليمية وكذلك بطبيعة المشروع الصهيوني الذي يختلف تماماً عن ظروف فرنسا وأوروبا وحتى العراق؛ لأن المقاومة العراقية كانت ضد دولة لها وضع على الخريطة احتلت العراق، ولا تريد أن تحل محل الشعب العراقي في أرضه مثلما هي الحال في فلسطين، كما أن “إسرائيل” بالذات مشروع استعماري استيطاني إحلالي، كما أنها شركة مساهمة غربية رأسها ومحل إقامتها في فلسطين، ولكن شركاءها الأصليين والمحدثين هم في أماكن متفرقة.

وقد أشارت إحدى الصحف “الإسرائيلية” يوم 1/8/2014م إلى أن “الإسرائيليين” يفضلون قراءة الصحف المصرية؛ لأنها تعطي “إسرائيل” عظمة لا يرونها فيها بخلاف الحقائق الصافعة التي تتحدث بها الصحف “الإسرائيلية” عن “إسرائيل”، ولكن الحقيقة تقع بين الإعلام المصري والإعلام الصهيوني، فـ”إسرائيل” قوية بضعف العرب وأحياناً انجرارهم وسذاجتهم وليست قوية بذاتها، وقد أكد ذلك صراحة المستشار الإعلامي بالسفارة “الإسرائيلية” في القاهرة سابقاً ومستشار رئيس الوزراء “الإسرائيلي” في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية يوم 1/8/2014م، حيث أكد أنه بغير الولايات المتحدة لا تستطيع “إسرائيل” بكل تقدمها التكنولوجي وازدهارها الاقتصادي أن تصمد في هذه المنطقة.

هكذا بدأ الجدل حول المقاومة ضد “إسرائيل” أولاً في الوسط الفلسطيني كما في الوسط اللبناني، وحجة المعارضين للمقاومة أنها غير فعالة وتسبب أضراراً كبيرة للشعب وللدولة، وأنها غير منتجة في مواجهة دولة قوية كـ”إسرائيل”، بل إن بعض القيادات السياسية العربية الكبيرة تساءلت عن حصيلة المقاومة في ثلاثين عاماً، ونسبوا إلى المقاومة أنها السبب في تمزيق الصف الفلسطيني واللبناني دون أن تحرر فلسطين أو تكسب لبنان شيئاً أو تعيد للبنان نضارته السياسية وازدهاره الحضاري والاقتصادي.

وهذه الزعامات العربية وبعضها وثيق الصلة بـ”إسرائيل” كررت هذه المواقف في كل عدوان “إسرائيلي” على غزة ولبنان، ولكن هؤلاء الزعماء يتحالفون مع الولايات المتحدة، وهي القاعدة الأساسية التي يتحرك عليها المشروع الصهيوني، وبعضهم عقد معاهدات سلام مع “إسرائيل” لكي يصبح طرفاً محايداً بين المشروع الصهيوني وبين الأطراف العربية الأخرى.

وكل هذه الزعامات في الواقع المتحالفة مع الولايات المتحدة  تعادي إيران التي تساند المقاومة ضد “إسرائيل”، ولذلك أضيف عاملاً جديداً من العوامل المضادة للمقاومة؛ وهو التحالف الإقليمي مع “إسرائيل” ضد المقاومة التي تمثل في نظر هذا التحالف النفوذ الإيراني، فضرب المقاومة يعني إضعاف إيران، واقتلاع المقاومة يعني حرمان إيران من ذراعها في هذه المنطقة، ولعل الخلطة السورية كانت عملاً عبقرياً من جانب هذا التحالف الموجَّه أساساً إلى إيران؛ مما جعل التحالف يغفل عن الإبادة للفلسطينيين مقابل اقتلاع إيران من المنطقة على أساس أن إيران عندهم أخطر من “إسرائيل” مادامت “إسرائيل” هي الطفل المدلل لواشنطن في المنطقة.

هذه النظرة قد يكون لها وجاهتها من الناحية السياسية المتعلقة بأمن النظم الذي تهدده إيران عند بعض الدول، ولكن هذه النظرة تتناقض مع أمن الوطن من الناحية الإستراتيجية؛ لأن “إسرائيل” هي الخطر الدائم على العرب جميعاً وعلى إيران أيضاً في مرتبة تالية؛ ولذلك من مصلحة هذا التحالف أن يُدخل إيران مكان “إسرائيل”، وأن يعيد رسم خريطة المنطقة على أساس استبعاد الخطر الصهيوني الغريب عن جسد المنطقة.  

يسوق المناهضون للمقاومة أيضاً حجة أخرى؛ وهي أنه إذا كان الهدف في فلسطين هو إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية، وأن المقاومة تعيق تحقيق هذا الهدف، فإن المقاومة تعتبر عقبة في سبيل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، ومادامت المقاومة وسيلة وليست غاية، وأن الغاية تتناقض مع الوسيلة التي يمكن تحقيقها بالمفاوضات وليس بالمقاومة، فإن ذلك يقتضي إزالة المقاومة، هذه النتيجة تتفق تماماً مع المنطق “الإسرائيلي” الذي أفصح عنه “نتنياهو” في الأسبوع الأخير من أغسطس 2014م، كما أن هذا الطرح في جزء كبير منه انعكس في بعض الخطاب السياسي العربي الرسمي والإعلامي خاصة المصري.

أما مؤيدو المقاومة؛ فيرون العكس تماماً، فالمقاومة رد فعل بيولوجي للعدوان على جسد الوطن، والمقاومة لها صور متعددة؛ تبدأ بالرفض النفسي والسلوكي، وتصل إلى ما تيسر من المقاومة المسلحة، كما أن شرعية المقاومة في فلسطين تستند إلى عدم شرعية الاحتلال “الإسرائيلي” وجشع المشروع الصهيوني وعدوانه المستمر على الفلسطينيين في ربوع فلسطين.. أما في لبنان، فإن المقاومة ليست مهمتها استرجاع الحق، وإنما مهمتها الدفاع عن لبنان ضد تجاوزات “إسرائيل”، ولذلك فإن قوة الجيش اللبناني واستقامة عقيدة الدولة المناهضة لـ”إسرائيل” وعدوانها يسمح بدمج المقاومة قلباً وقالباً، كذلك يضيف هذا الفريق أنه أمام عدم وجود تصدٍّ رسمي عربي لـ”إسرائيل” في فلسطين، فإن المقاومة مهمتها التعبير عن رفض الواقع “الإسرائيلي”، وتذكيراً للأجيال بأن الشعب الفلسطيني له الحق في الحياة على أرضه، وأن المقاومة يمكن أن تكون ورقة في يد المفاوض الفلسطيني، إذا كانت المقاومة والمفاوض في معسكر واحد وليس كما هو حادث الآن، يضيف هذا الفريق أيضاً أنه قبل نشأة “حماس” عام 1987م مع الانتفاضة الأولى كانت المقاومة قد توقفت لمدة خمس سنوات منذ بعثرتها في أقطار الأرض عام 1982م وطردها من لبنان ومن المنطقة، فكانت الانتفاضة وفي القلب منها “حماس” هي الجيل الثاني الذي جدد عزم الشعب الفلسطيني على حقوقه، وليس مطلوباً من المقاومة وحدها أن تحرر فلسطين مادامت لها دلالة رمزية وقدرة عملية على عدم استقرار الاحتلال وتمدد المشروع بصرف النظر عن نجاحها أو فشلها في ذلك، فلاشك أن مقاومة الاحتلال البريطاني في منطقة القناة عام 1951م تعبيراً عن رفض المصريين لاستمرار الاحتلال، ومن قبله أجيال الحركة الوطنية منذ احتلال مصر عام 1882م، لم يحرر مصر، ولكنه كان تعبيراً عن رفض الشعب المصري لاحتلال يوازي تعامل الساسة المصريين بشكل مريح مع سلطات الاحتلال.

والخلاصة؛ لا تنتهي المقاومة إلا بانتهاء السبب الذي قامت من أجله، فإذا انتهت المقاومة في فلسطين فسوف تنشأ مقاومات متعددة في كل قطر عربي ضد المشروع الصهيوني والمساندين له من الخارج والداخل العربي. 

Exit mobile version