الحرب على غزة.. ودروس في اقتصاديات التنمية

ثمة مجموعة من المؤشرات تدلل على تحقيق تقدم نوعي في القيمة المضافة التي تحققت من قبل فصائل المقاومة في غزة، منها مؤخراً إطلاق الطائرات بدون طيار على مناطق شديدة الحساسية بدولة الكيان الصهيوني، وكذلك تطوير مجموعات الصواريخ المستخدمة لتطال مناطق جديدة ل

ثمة مجموعة من المؤشرات تدلل على تحقيق تقدم نوعي في القيمة المضافة التي تحققت من قبل فصائل المقاومة في غزة، منها مؤخراً إطلاق الطائرات بدون طيار على مناطق شديدة الحساسية بدولة الكيان الصهيوني، وكذلك تطوير مجموعات الصواريخ المستخدمة لتطال مناطق جديدة لم تكن تحت طائلة نيران المقاومة الفلسطينية في غزة.

ليس هذا فحسب، ولكن منذ فرض الحصار على غزة في مطلع عام 2006م، وحكومة هنية تشجع أبناء غزة على توفير العديد من السلع في إطار ذاتي، كما هي الحال في تطوير المزارع السمكية، وإنتاج العديد من السلع الزراعية، وكذلك إنتاج بعض المواد الخام اللازمة لإقامة البيوت.

إن أهم الدروس المستفادة من تجربة غزة، والتي يمكن اعتبارها في إطار تنموي، تتمثل فيما يلي:

· زيادة القيمة المضافة:

ما من شك أن أكبر مشكلات الدول النامية، أنها تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، فيكون عائدها المادي ضعيفاً، لا يلبي رغباتها في التنمية، بزيادة الإنفاق على قطاعات التعليم والصحة، وغيرها من المشروعات الضرورية.

كما تعتمد الدول النامية على الصادرات الصناعية، وهو ما يكلفها الكثير، وبخاصة في مجال السلاح، واللافت للنظر هنا، أن المقاومة الفلسطينية في غزة، لديها الإصرار على تطوير ما لديها من إمكانات، وحتى إن اعتبرها البعض بسيطة.

ولكن صواريخ المقاومة التي كانت في بدايتها لا تتعدى 10 كم، أصبحت بفضل الإصرار على التطوير تذهب لمسافات أبعد، والإضافة في حرب غزة 2014م أنها أطلقت طائراتها بدون طيار، وهي نقلة نوعية، وإن كان البعض يرى أنها تكنولوجيا مسبوقة، إلا أن الجديد هو تصنيعها وتجميعها وإطلاقها في ظل الحصار.

· حسن توظيف الموارد:

في الوقت الذي تمتلك في المقاومة الفلسطينية بغزة إمكانات محدودة في مجال التسليح، إلا أنها استطاعت أن تفعِّل هذه الإمكانات؛ بما أدى إلى تحسين موقفها في الحرب مع الكيان الصهيوني، وجعلها في إطار صاحبة المبادرة، وليس مجرد موقف المدافع.

والفارق بين أداء غزة وغيرها من دول عربية كانت تتمتع بالاستقلال التام، ولكنها فرطت في حريتها، وأصبحت خاضعة لما تفرضه عليها الدول المعادية لها، ما حدث في ليبيا، عندما دفعت ثمناً غالياً لحصولها على الصلح مع الغرب.

إذ تم تفكيك السلاح الكيماوي بليبيا، إبان حكم الطاغية “معمر القذافي”، وتم حمل السلاح الكيماوي لليبيا على سفن إلى خارجها، لتصبح تلك الأموال التي أنفقتها ليبيا على هذه الأسلحة حسرة وندامة، وبالمعايير الاقتصادية، فهو إهدار للموارد.

وتكرر الموقف ثانية في حالة سورية، بعد استخدام الطاغية “بشار الأسد” السلاح الكيماوي ضد أبناء شعبه، فما كان منه إلا أن قبل بتفكيك هذا السلاح وحمله لخارج سورية؛ تفادياً للعقوبات الدولية المحتملة من قبل مجلس الأمن في ذلك الوقت.

والدرس هنا أن الإنفاق على السلاح في حالة كل من ليبيا وسورية كان بمثابة إهدار للموارد المالية للدولتين، بينما في حالة غزة، على الرغم من غياب المقومات الكاملة للدولة، التي أتيحت لليبيا وسورية، فإن غزة استطاعت أن توظف مواردها المالية المحدودة، بشكل يحقق حقها في الردع.

· الاعتماد على الذات:

لم تسوّف غزة في تطوير إمكاناتها، والعمل على توفير احتياجاتها الأساسية في مجال التسليح والغذاء، لحين اكتمال أركان الدولة، أو استقدام استثمارات لا تأتي، كما تسوّف الكثير من الدول النامية، وعلى رأسها الدول العربية.

وهنا لابد من الإشارة إلى الفارق الكبير بين مفهومي “الاعتماد على الذات”، و”الاكتفاء الذاتي”، فمن الصعوبة بمكان أن تستطيع غزة أن تحقق الاكتفاء الذاتي في العديد من احتياجاتها الأساسية والضرورية، ولكنها اعتمدت على ذاتها في تطوير ما لديها من موارد بشرية، تجلت فيما ذكرناه من تطوير للصواريخ وإطلاق طائرات بدون طيار، وكذلك العمل النوعي الكبير المتمثل في اختراق القنوات التلفزيونية للكيان الصهيوني.

إن كثيراً من التجارب الناجحة للتنمية في دول جنوب شرق آسيا وفي الصين، بدأت بالمحاكة لكثير من المنتجات، ثم إنتاجها، ثم تطويرها، وهو ما يتحقق الآن على أرض غزة، كما رأينها في مجالات المواجهة المتعددة.

· العمل في ظل القصور المالي:

من المهم أن نستحضر حالة الحصار التي تعيشها غزة منذ عام 2006م، وبخاصة بعد الانقلاب العسكري بمصر، بعد أن تم تدمير أعداد هائلة من الإنفاق، التي تعد شريان الحياة للمجتمع الغزاوي، وهو ما نتج عنه عزل غزة بالكلية عن العالم، من قبل الكيان الصهيوني من جهة، ومن قبل حكومة الانقلاب العسكري في مصر.

والمال في غزة موارده محدودة ومعروفة، ما بين تحويلات أبناء غزة في الخارج لذويهم، أو تلك التبرعات من هنا وهناك، وإن كانت قد مورست حروب عدة على التبرعات لأهل غزة، واعتبار من يقدم هذه الدعم أو التبرع إرهابياً، ويؤهله ذلك لمصادرة أمواله، ومحاكمته، ووقوعه تحت طائلة العقاب بالسجن.

وفي ظل هذه الموارد المالية المحدودة، رأينا هذا الأداء، الذي عجزت عنه حكومات تتوافر لها مزايا أوفر، ولكنه المشروع والهدف، مشروع التحرر، وهدف زوال الاحتلال، فتم توظيف المال القليل في إطار هذا الهدف.

لقد جُربت مفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني منذ قرابة أربعة عقود، دون جدوى، عبر وسطاء عرب وأوروبيين وأمريكيين، ولكن بقيت المقاومة هي الخيار الوحيد الذي يثبت أنه الأجدر لتحرير الأراضي الفلسطينية.

لم تشترط فصائل المقاومة توفير المال لإقامة مصانع السلاح، أو تمويل بنكي للنجاح في إنتاج السلع الزراعية والغذائية، أو إقامة المراكز البحثية العملاقة لتطوير ما لدى المقاومة من إمكانات، ولكن تم تفعيل وظائف هذه الكيانات غير الموجودة، في إطار حسن توظيف الموارد المالية القليلة.

· إهمال الملهاة السياسية:

كثير من الدول العربية يعلقون شماعة تخلفهم تنموياً على الربط بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، أو الحصول على الاستقرار السياسي والأمني، حتى يتحقق التقدم الاقتصادي، ولكن تجربة غزة شديدة الوضوح، خلافات الفصائل الفلسطينية سياسياً لا تحتاج إلى دليل، العزل والحصار من قبل الكيان الصهيوني وغيره، كذلك يعلمها الجميع، ولكن هذا لم يمنع من العمل والإنتاج والتطوير.

ختاماً: إن ما دعانا للإشارة إلى هذه الدروس التنموية لتجربة غزة، ليس الادعاء بأن غزة يمكنها الاستغناء عن العالم في ظل الظروف الظالمة المفروضة عليها من خلال الحصار والحرب الغربية العربية، أو أنها توصلت إلى ما ينبغي تحقيقه في مجالات السلاح والدواء والغذاء.

ولكن هذا الأداء الذي مكنها من تغيير معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني، وهي تجربة، على القائمين على أمر التنمية في دولنا العربية الاستفادة منها، وعدم الركون على الغرب أو الشرق في تحقيق أهدافنا التنموية، وتوظيف مواردنا الاقتصادية، سواء كانت مالية أو طبيعية أو بشرية، لصالح مشروعنا التنموي، وعلى رأس أهدافه التحرر من التبعية أياً كان شكلها.

 

 

 

 

Exit mobile version